هنا دمشق، ولا وقت لحل. الوقت كله مكرّس للحرب، مجهز للفتك بلا توقف... لا أحد يتنبأ بهدنة إنسانية أو... خلاص مؤقت، ولا أحد يجرؤ على تصوّر خاتمة سعيدة (!) أو بائسة وكارثية.
هنا دمشق، ولا وقت لديها، كأخواتها حلب وحمص وحماه ودرعا ودير الزور وقارة الريف المنتشر من حدود العاصمة إلى الحدود الدولية... لا وقت لديها لالتقاط الأنفاس. لا زمن لها إلا داخل أسوار العنف. كأنها مدن خرجت من كتاب «الطاعون» لألبير كامو، انها تشبه وهران بكامل بؤسها، وقد تخلى عنها الجميع، لاقترابها من العبث.
كل الأوقات في الروزنامة السورية تحمل أنباء عن تأبيد الكارثة. قبل سبعة عشر شهراً، كانت سوريا في عالم آخر. هذا زمن انتهى. عالم الاستبداد لم ينته. أنتج عالما مشغولا بصناعة موته. القيمة المضافة في سوريا، أنها معلقة على حبل المشنقة. تشنق كل يوم، وتظل تصيح: «أسقوني»، على ما جاء في أساطير الثأر عند العرب.
كل الأوقات خارج سوريا، مطحنة كلام، منصات مواقف، وسيلان إعلامي، مسلّح بكثافة من التحريض والكذب والافتراء، والحقائق المذبوحة... لا أحد يملك غير الكلام المعاد: مجلس الأمن عاقر، أميركا متربعة، روسيا منتظرة، تركيا مرتبكة، إيران متورطة، مصر تتدرب وتتلمذ، السعودية منخرطة بلا هوادة، قطر مندفعة وتدفع بالتي هي أسوأ... والخلاصة: سوريا غارقة في دمها. والخلاص مؤجل... الخلاصة الثانية: المقابر تستغرب هذه الحشود التي تؤمها إلى الأبد... ما أطول هذه الجنازة. ما أفدح آلامها.
هنا دمشق، وهي تقترب من أن تكون نموذج الحروب التي لا تنتهي. في هذه الأثناء، يمكن الانشغال فقط بالضحايا، والتمهل عند أعدادهم والآلام المترافقة. يمكن كذلك التوقف عند ضرورة عدم الاعتياد. كارثة ان نعتاد على موت وقتل، من دون أحزان مكافئة وغضب مواز... فقط، في هذه الحالة، نحافظ على إنسانيتنا... النسيان والاعتياد، يجعلنا من عائلة الذئاب، ومن أهل الغابة.
هنا دمشق وكل الأدوات متوفرة لدى السوريين، نظاماً ومعارضة، لائحة من الأسلحة والوسائل التي امتلكها لبنان، يوم كان يداوم على الانتحار: أسلحة فردية، مدافع هاون، راجمات صواريخ، مضادات أرضية، قصف جوي (هذا اختصاص سوري وليبي) اغتيالات، خطف وخطف مضاد. حواجز على الهوية، تصفيات ميدانية، مجازر تتناسل، تهجير، اعتقال، تعذيب، قمع، تعذيب، فلتان، سرقة، نهب، تشبيح، ميليشيات، عسكر، ديانات ورجال دين، طوائف، مذاهب، مخابرات، تجسس، مطاردات، داحس وغبراء. ويضاف إلى ذلك: لم تبق دولة ذات نفوذ أو مال أو مصالح، إلا ولها يد في ما يحدث في سوريا.
هنا دمشق، ولا عار أفدح من العار في سوريا. عار عربي، عار قومي، عار إنساني، عار ثوري، عار سياسي، عار تاريخي... وفي ظل عدم الحسم، حيث النظام عاجز عن «الانتصار»، والمعارضة أعجز من إلحاق الهزيمة بآلة النظام العسكرية، فإن الشعب يدفع كلفة الذهاب إلى المجهول.
هنا حمص... أنا لم أعد مدينة. هنا الأشباح والمخاوف والحصار.
هنا حلب... أنا أشبه بروما قبل حريقها الأخير.
مدن سوريا لم تعد تمتّ إلى ماضيها بصلة... سوريا هي المعضلة وهي الضحايا وهي الوداع... لا ضوء في النفق. السلطة اختارت النحر أو الانتحار. لا وسط أبداً. تتصرف كأن الانتصار غدا، وكل غد سوري ماض، مضى من زمن غير قصير... المعارضة اختارت النصر أو النحر. لا وسط أبداً. فوضى عارمة.
سوريا المريضة لا شفاء منها ولا شفاء لها، وشعبها بات معلقاً بين موت بكل الأشكال المبتدعة، وهجرة مذلة، وغير قصيرة.
لا فكرة في هذا المقال. لا فكرة مفيدة على الإطلاق، من لديه فكرة؟ العواصم؟ السلطة؟ المعارضة؟ الأمم؟ كوفي أنان؟ الأخضر الإبراهيمي؟ لا أحد.
إنه وقت ملائم فقط، للتعاطف فقط، لمشاعر النبيلة، للدمع النبيل. انه وقت لتحسس آلام أطفال ورجال ونساء وشيوخ، يُقتلون بالعشرات، ويهربون من وطنهم الأجمل، إلى المنافي غير المؤقتة.
هنا دمشق اليوم... من يؤكد لنا، ويقول: هنا دمشق غدا، وقد استعادت أمنها، وقبضت على حريتها وكرامتها، بكلفة مريعة.
-------
نقلا عن "السفير"