لا نبالغ إذا قلنا بأن مقابلةً تلفزيونية للسيد بسام جعارة، المتحدّث باسم الهيئة العامة للثورة السورية، لا تكاد تخلو من مغالطة أو خطأ أو ادِّعاء لا معنى له (قال جعارة في مقابلة تلفزيونية بُثَّت فور الإعلان عن اغتيال ضباط خلية الأزمة بأنه كان يعرف بتفاصيل العملية قبل أسبوع من حصولها!! رغم أننا إلى اليوم لا نملك أي معلومة مؤكدة عن الجهة التي تقف وراءها!!).
لكن مغالطة خطيرة كرَّرها جعارة مرّتين على الأقل تستوجب الردّ والتصويب، حيث صرَّح بأنه يريد لسوريا أن تعود إلى عهد أديب الشيشكلي في وصفه عصراً ذهبياً!!
والحقيقة أننا لو أردنا أخذ هذه المغالطة على محمل النوايا الحسنة جداً لقلنا إنها من قبيل الجهل بالتاريخ، أما إذا أخذناها على محمل النوايا الأقل حُسناً فسنقول إنها من قبيل اللعب على الغرائز (الطائفية للأسف).
فالجميع يعرف بأن العقيد أديب الشيشكلي كان الدكتاتور الأكثر دموية في تاريخ سوريا قبل مجيء عهد الأسدَين المجرمَين. بل إن الشيشكلي نفسه هو الملهم الأول لحافظ الأسد وهو ما سأثبته في هذا المقال.
فإذاً، ما الذي يدفع شخصاً مثل بسام جعارة، يريد إسقاط دكتاتور اليوم، إلى أن يحلم بعودة دكتاتور الأمس؟!
الإلهام الدمويّ
من يقرأ تاريخ الدكتاتور السوري أديب الشيشكلي (1909 - 1964) لا بدّ من أن تلفته كثرة التقاطعات بين أساليبه والأساليب التي اتبعها الدكتاتور حافظ الأسد (1930 - 2000)، بل أيضاً التقاطعات بين سيرتَي الرجلَين. وكي لا يبقى الكلام على عواهنه سأُعدِّد في الآتي بعضاً من تلك التقاطعات:
1- سمّى أديب الشيشكلي حركته الانقلابية بـ"الحركة التصحيحية" (حرفياً)، وسمَّى حافظ الأسد حركته الانقلابية بـ"الحركة التصحيحية".
2- اعتقل الشيشكلي صديقَه وشريكه في الانقلاب السابق سامي الحناوي، واعتقل الأسد صديقَه وشريكه في الانقلاب السابق صلاح جديد.
3- أجرى الشيشكلي استفتاء (هو الأول من نوعه في تاريخ سوريا) فاز فيه بنسبة 99,9 في المئة، وأجرى حافظ الأسد استفتاءات عديدة فاز فيها بالنتيجة ذاتها.
4- حظر الشيشكلي حزب "الإخوان المسلمين" في 15 كانون الثاني 1952، وحظر الأسد حزب "الإخوان المسلمين" بشكل وحشي في 21 حزيران 1980 حيث حكم بالإعدام على كل منتسب إلى الجماعة.
5- ارتكب الشيشكلي مجزرة رهيبة في السويداء حيث دخلها بالدبابات وقصفها بالطيران عامَي 1954 و1955 (وللأسف هذه المجزرة ليس لها أي حضور في الوجدان السوري أو على الأقل في الذاكرة السورية)، وارتكب الأسد مجزرة رهيبة في حماة حيث دخلها بالدبابات وقصفها بالطيران أيضاً سنة 1982.
6- قال الشيشكلي بنظرية "المؤامرة الخارجية" وعرض في دمشق أسلحة إسرائيلية كان الجيش قد غنمَها في حرب 1948 زاعماً أنه عثر عليها في السويداء، وفعل مثله الأسد في حماة حيث قال بنظرية "المؤامرة الخارجية" وأشاع إعلامه أخباراً عن وجود أسلحة إسرائيلية في حماة (وعلى الخطى ذاتها سار الأسد الابن مضيفاً إلى الأسلحة الإسرائيلية في بابا عمرو أموالاً إسرائيلية أيضاً عرضها التلفزيون السوري دون الاكتراث إلى أنها من طبعة قديمة لم تعد متداولة اليوم في إسرائيل!).
7- اعتمد الشيشكلي في مجزرته على شقيقه النقيب صلاح الشيشكلي، واعتمد الأسد في مجزرته على شقيقه العقيد رفعت الأسد.
8- منع الشيشكلي الصحافيين والصليب الأحمر من الدخول إلى السويداء المحاصرة، وكذا فعل الأسد في حماة حيث منع الصحافيين والصليب الأحمر من دخولها.
9- اعتمد الشيشكلي نظرية الحزب القائد (حركة التحرير العربي)، واعتمد الأسد نظرية الحزب القائد (حزب البعث).
10- حقَّق الشيشكلي استقراراً أمنياً كبيراً في سوريا لم تشهد البلاد له مثيلاً من قبل، وحقق الأسد استقراراً أمنياً كبيراً وأطول مدّة بكثير.
11- ينحدر الشيشكلي من خلفية أقلوية (التركمان) وينحدر الأسد من خلفية أقلوية (العلويون).
12- يُعتبر الشيشكلي أحد الضباط المسؤولين عن ضياع فلسطين لأنه كان صاحب دور قيادي في حرب 1948، مثلما يُعتبر حافظ الأسد مسؤولاً عن ضياع الجولان حيث كان وزير حربية آنذاك... ولذلك ربما يشترك الاثنان في أنهما أكثر رئيسَين سوريين على الإطلاق استثمرا القضية الفلسطينية في مشاريع السلطة، وقد كان الشيشكلي مشهوراً بخطبه الرنانة عن فلسطين.
... إلخ.
بالطبع ثمة الكثير من التقاطعات الأخرى، ولكنني اخترتُ فقط تلك المميّزة، فليس في سجلّ الدكتاتوريين الذين حكموا سوريا الحديثة من ارتكب جرائم ضدّ الإنسانية سوى الأسد والشيشكلي.
الآن نأتي إلى الفارق الأساسي بين مسيرتَي الرجلَين، والذي سيُدهشنا أكثر مما أدهشتنا التقاطعات إذا ما قارنَّا ذلك بما يحصل اليوم مع الأسد الابن والذي كأنما قد عقد العزم على إتمام "النقص" الذي خلّفه والده... فلنقرأ:
بينما مات الأسد الأب على فراشه، انتهى حكم أديب الشيشكلي بتظاهرات شعبية عمَّت معظم أنحاء سوريا تطالب بسقوط الدكتاتورية، مهَّدتْ لقيام انقلاب عسكري أطاح به، وأرغمه على تقديم الاستقالة، من ثم الهرب إلى البرازيل، حيث انتهى مقتولاً على يد أحد أبناء الجبل من الذين قُتلتْ عائلاتهم في المجزرة...
بل إن المفارقة تزداد إثارة إذا ما علمنا أن كمال جنبلاط تدخَّل آنذاك في الثورة في البداية ناصحاً الشيشكلي من ثم مهاجماً إياه، تماماً كما يتدخّل اليوم وليد جنبلاط مهاجماً الأسد الابن بعدما كان ناصحاً له!
هل فعلاً ما تشهده سوريا اليوم هو محاولة لإتمام "النقص" المفترض في سيرة الأسد الأب حيث أخذ الأسد الابن على عاتقه إنجاز النهاية الدموية اللائقة بالمجرمين أمثاله؟
هامش تاريخي بخصوص مجزرة السويداء:
أكثر من 600 قتيل هم ضحايا المجزرة التي ارتكبها أديب الشيشكلي في جبل العرب سنة 1955.
وسبب ذلك هو معارضة سلطان الأطرش لنهجه الدكتاتوري الصريح (وقد كان الأطرش آنذاك رمزاً وطنياً كبيراً في سوريا يطلب الرؤساء تأييده). لذلك اتهمه الشيشكلي بأنه يُعدُّ لانقلاب عليه بالتعاون مع الهاشميين في الأردن، مُطلقاً مقولته الشهيرة: "في سوريا أفعى رأسها في جبل العرب وبطنها في اللاذقية وذنبها في حلب، وإذا قطعتَ الرأس ماتت الأفعى".
في كانون الأول سنة 1954 أصدر الشيشكلي أمراً باعتقال سلطان الأطرش، وأرسل لتنفيذ هذه المهمة حامية عسكرية، لكن أهل الجبل تصدّوا لها وأسروا 85 جندياً منها، ما أفقد الشيشكلي صوابه، فقام بسحب معظم وحدات الجيش السوري من الجبهة وإرسالها إلى السويداء التي دكّها بقنابل الطائرات... وفي يوم 31 كانون الثاني 1955 ارتكبت قوات الشيشكلي مجزرة كبيرة أثناء دخولها إلى السويداء ذهب ضحيتها المئات، ناهيك عن أعمال النهب التي نفّذها بدو الجبل بإيعاز من النقيب صلاح الشيشكلي. إذ ذاك وحقناً للدماء قرّر سلطان الأطرش مغادرة سوريا واللجوء إلى الأردن... لكن ذلك لم يثنِ الشيشكلي عن إتمام ما عزم عليه، فقام جنوده باقتحام بيت سلطان الأطرش وتخريبه بعد سرقة وثائق ومتعلّقات نادرة تخصّ الثورة السورية الكبرى ما زالت مفقودة إلى يومنا هذا (بينها البدلة العسكرية للجنرال الفرنسي نورمان الذي قُتل في معركة الكفر سنة 1925).
وبعد ثلاثة أسابيع على المجزرة، وتحديداً في يوم 25 شباط، كان النقيب مصطفى حمدون يُذيع بيان الانقلاب على الشيشكلي الذي كان العقيد أمين أبو عساف رأس حربة في تنفيذه. هرب الشيشكلي في اليوم ذاته من سوريا، بعدما أذاع بيان التنحّي الذي لم يكن له قيمة فعلية بسبب نجاح الانقلاب، وغادر إلى البرازيل ليقيم في مزرعة نائية، شاء سوء حظه أن يكتشف مكانها - بعد تسع سنوات - شخصٌ فقدَ أمه وأخته في مجزرة السويداء، اسمه نواف غزالة، لقمَ مسدّسه برصاصتَين استقرتا في صدر الشيشكلي يوم 27 أيلول 1964.
هامش بخصوص درعا والسويداء:
كان لدرعا دور كبير في إسقاط الشيشكلي نصرةً لشقيقتها السويداء... وعلى السويداء أن تبذل اليوم كل جهدها لردّ هذا "الدَّين".
نقلا عن موقع "إيلاف"
-----
تنويه من سيريا بوليتيك: المقال منقول عن موقع "إيلاف"، الذي يتخذ من لندن مقرا له، ولا يتبنى سيريا بوليتيك مضمون المقال، وأي طرف ورد ذكره في المقال ويرغب في التعليق والرد فحقه مُصان.