منذ نحو شهرين تقريباً، تعكف القيادة التركية على وضع خطط لمواجهة التداعيات الخطرة الجارية داخل جارتها سوريا، ولا سيما لناحية التطورات الدراماتيكية في القضية الكردية. والدافع الأساسي إلى ذلك هو تبلور قناعة راسخة عند أنقرة بأن سوريا قرّرت استخدام الورقة الكردية بوجهها، متجاوزة بذلك، عن سابق إصرار، الخطوط الحمر، لأن دمشق تعرف مدى حساسية هذا الملف بالنسبة إلى أنقرة. والمؤشر القاطع الذي يثبت هذا التوجه السوري، تَمَثّل عملياً بقيام دمشق، بدءاً من شهر أيار الماضي، بسحب الجيش السوري وقوات حفظ النظام من المناطق الحدودية ذات الغالبية الكردية وسماحها للمقاتلين الأكراد بملء الفراغ الأمني هناك، ولا سيما من قبل أولئك المنتمين إلى حزب الاتحاد الديموقراطي العازف عن الانخراط ميدانياً، في التحركات الشعبية المناهضة للنظام السوري، والمتعاطف مع حزب العمال الكردستاني، والذي تخوض تركيا معه قتالاً مزمناً وتعدّه منظمة إرهابية.
خلط الأوراق الكردية في سوريا
أول بند يدرسه «تقدير الموقف التركي»، هو كيفية بناء تحالفات كردية جديدة في سوريا، تعطّل خطة دمشق لمواجهتها «بالورقة الكردية». لكنه يستدرك بأن هذا التوجه ليس سهلاً، نظراً إلى التالي: من وجهة نظر الاستخبارات التركية، فإن حزب الاتحاد الديموقراطي، أقوى الأحزاب الكردية السورية والأكثر تنظيماً. كذلك تُلاحَظ معانٍ أخرى لخطورته «وهو أنّه منذ تأسيسه عام 2003، اتخذ طابعاً قومياً اشتراكياً، ولم يبرز على الساحة السياسية، إلا بعد بدء الأحداث الأخيرة في سوريا منذ نحو عام ونصف عام، ما يعني أنّ تفعيله بضوء أخضر سوري، له صلة مباشرة بتوظيفه في الصراع الجاري بين أنقرة ودمشق».
في المقابل، يوجد المجلس الوطني الكردي، وهو تحالف من 15 فصيلاً كردياً سورياً، تشكل عام 2011 وهو مدعوم من حكومة اقليم كردستان ــ العراق الذي يتزعمه مسعود البرزاني، المقرّب من تركيا.
وتحاول أنقرة وفق توجّهها الجديد لاحتواء الوضع الناشئ مع أكراد سوريا، إبرام صلة تحالف بين هذين الطرفين بغطاء من البرزاني، على أن تكون تركيا بعده الإقليمي. وهي بدأت هذا المسعى منذ أشهر، وكانت ذروته يوم السادس والعشرين من شهر تموز الماضي، حيث استطاع البرزاني، بضوء أخضر تركي، أن يجمع بين هاتين المجموعتين، ويضغط باتجاه أن يشكّلا معاً «المجلس الكردي الأعلى»، ورغم نجاحه في ذلك، إلا أنّ من المشكوك أن يكون هذا المجلس فاعلاً على أرض الواقع، نظراً إلى ما بينهما من خلافات عقائدية وتناقضات سياسية، والأهم فقدان الثقة بين الطرفين، ذلك أنّ المجلس الوطني يتهم حزب الاتحاد بدعم النظام السوري وبالارتباط بحزب العمال الكردستاني، ويتلقى الدعم منه. وبالمقابل، يشكك حزب الاتحاد بولاء المجلس الوطني للقضية الكردية، ويتّهمه بتنفيذ سياسات تركيا عبر حكومة كردستان العراق.
ويرى «تقدير الموقف التركي»، أنّه بموازاة تعقيدات التركيبة الكردية الداخلية وصعوبات احتوائها، فإنّ في ثناياها نقاطاً أقّل قلقاً، أبرزها «محدودية القوة الكردية السورية»، مقارنة بتلك الموجودة في كردستان العراق. فالقومية الكردية في سوريا لا تتجاوز العشرة بالمئة من مجموع الشعب السوري، (مقارنة بـ17 بالمئة في العراق)، منتشرين في مناطق جبلية مغلقة وفقيرة الموارد والبنى التحتية والإمكانات، علماً بأنّ أكبر تجمع كردي في سوريا هو في مدينة القامشلي التي يبلغ عدد سكانها 185000 ألف نسمة (مقارنة بأكثر من مليون نسمة في مدينة أربيل العراقية الغنية بالنفط والمفتوحة على حدود استراتيجية هامة). وحالت كلّ هذه العوائق دون ظهور تنظيمات حزبية كردية قوية في سوريا، كتلك التي نشأت في العراق. لكن بالرغم من كل المعطيات الآنفة عن محدودية القوة الكردية في سوريا، فإن «تقدير الموقف»، يدعو أنقرة إلى عدم الاستهانة بخطورة المسألة الكردية عبر حدودها مع سوريا، وذلك للعوامل الآتية:
ــ الحدود مع سوريا تمتدّ على أكثر من 800 كلم، ما يحتم المراقبة الحثيثة لتطور قوة حزب الاتحاد الديموقراطي ورصد نشاطه عبر الحدود.
ــ الدلائل المتعاظمة التي تشير إلى أنّ الحزب يسير وفق مقولة «العدو التركي أولاً»، بدليل أنّه بالرغم من قمع النظام السوري لأيّ تحرّك قومي كردي طوال 40 عاماً، فإن حزب الاتحاد لم يأخذ أيّ موقف من الثورة المشتعلة، بل إنّه أرسل إشارات تأييد للنظام، الذي بدوره تجنّب الخوض في اشتباكات مسلحة معه، وعمد إلى الحفاظ على بعض الخيوط التي مدّها مع الأكراد، المتمثلة بالوعود والمواقف التي تدعم قضيتهم، ولو بشكل محدود.
ــ رغم إنجاز صيغة المجلس الكردي الأعلى، إلّا أنّ حزب الاتحاد استمرّ بتنفيذ المهمة المتفق عليها مع النظام السوري، والمتمثلة بقيام قواته شبه العسكرية بملء الفراغ الذي تركه انسحاب الجيش السوري وقوات حفظ النظام من مدن عفرين، وكوباني، وعامودا، ودرك، وأحياء من القامشلي، وهو لا يزال يرفع أعلامه الحزبية هناك، حتى بعد توحد المجموعات الكردية تحت مظلة المجلس الكردي الأعلى برعاية البرزاني وضوء أخضر تركي.
رؤيتان للمستقبل
يطرح «تقدير الموقف» سيناريوين، يوصف أحلاهما بأنّه مرّ، سيواجهان تركيا في المدى المنظور: إما مواجهة دويلة كردية على حدودها الجنوبية مع سوريا ملاصقة لدويلة كردستان العراق، وإما أن تتحول هذه المنطقة الحدودية ذاتها ملاذاً آمناً لمقاتلي حزب العمال الكردستاني ونقطة انطلاق هجماتهم عليها.
ويقول «التقدير» إنّه رغم أن تركيا تتّجه في استراتيجيتها لتجنب فتح جبهتين مع حزب العمال الكردستاني في الوقت نفسه، وهي التي تستنزفها محاربة هذا الحزب على طول الحدود مع العراق، لكن سيكون عليها أن تكون مستعدة لمواجهة هذا الاحتمال. (يلاحظ المصدر المطلع على «تقدير الموقف»، أنّ تركيا بدأت فعلاً بتحريك تعزيزات عسكرية منذ أكثر من شهر باتجاه الحدود مع سوريا).
ويوصي «تقدير الموقف»، الذي أصبح معتمداً في أنقرة، بحسب مصادر دبلوماسية، بأنّ على تركيا اللجوء إلى احتواء الخطر الكردي السوري بانتهاج استراتيجية مشابهة لتلك التي تنتهجها في كردستان العراق، أي إنها ستعمد إلى ضخّ الأموال والاستثمارات وتحسين البنية التحتية، وصولاً إلى بسط النفوذ الاقتصادي الكامل هناك، بحيث تصبح المنطقة معتمدة كلياً على الاقتصاد التركي، تماماً مثل إقليم كردستان العراق، ما يسهل لأنقرة السيطرة السياسية والأمنية. لكن «تقدير الموقف» يحذّر من أنّه يجب على أنقرة ألا تدعم دويلة كردية علناً ومباشرة، لأنها ستبدو بذلك وكأنّها تشجع الانفصاليين الأكراد في أراضيها على فعل الأمر نفسه. ويصف «تقدير الموقف» هذه النقطة بأنها تشكّل «الحلقة المفرغة في تعاطي تركيا مع المسألة الكردية». ويقترح لكل هذه الأسباب المعقدة، أن تعمد أنقرة إلى تقديم دعم غير مباشر عبر أربيل، ورئيس حكومتها مسعود البرزاني الذي باشر بتكوين شبكة علاقات مع أكراد سوريا بتشجيع تركي. لكن التقدير يحذّر من أنّه، أيضاً، يجب إخضاع مهمة البرزاني لمراقبة حذرة بحيث لا تسمح له ببناء قوة بين أكراد سوريا والعراق تخرج عن الحدود المرسومة له من قبل أنقرة. كذلك يجب التأهب لمواجهة نفوذ إيران بين أكراد سوريا، ولا سيّما جماعة جلال طالباني وعشيرته التي تبني طهران معها علاقات جيدة تستطيع بواسطتها تحدي نفوذ أنقرة في سوريا المستقبل، بل وأيضاً تشكيل تهديد لها داخل أراضيها نفسها.
"الأخبار" اللبنانية