آراء

  • السياسي كـ "إطفائي"

    06 سبتمبر 2012 - 11:30 AM : د. عقيل محفوض
  • أن يكون السياسيُّ "إطفائياً"، هذا يعني أنه ينتظر اندلاع الحرائق (الأزمات) ليعمل على "إطفائها"، أو "يستثمر" فيها، وقد يفتعل الحرائق في السر ليطفئها في العلن. وأن يكون ديدنه هو "إطفاء الحرائق" أو "تفكيك الألغام"، الخ، فهذا ليس من أصل السياسة، وإن كان من أدواتها وكيفياتها، وربما "انحرافاتها"، وبالأحرى القول أنه من "هرطقات" السياسيين الذين لا يتوانون عن فعل شيء من أجل تحقيق ما يريدون. ويبدو أن السياسي - الإطفائي، لا يرى في المجال العام إلا انعكاساً لصورته هو ورأيه هو. وقد يعتقد أن ما يفعله هو عين السياسة، ومن ثم فإن "إطفاء" الحرائق هو مقتضى كونه سياسياً!
    يتقمص "السياسي" حالة "الإطفائي" في أمور كثيرة، من حيث الدور، ومن حيث الكيفياته والأدوات، (الخ). وللإطفائي – مثلاً - أن يستخدم أي شيء يراه مناسباً لإطفاء الحرائق، لديه الماء والتراب الخ؛ وكذلك حال السياسي، فلديه كل شي تقريباً ليمارس عمله (وقد لا يكون ذلك بالضرورة من مهامه أو واجباته الصريحة) كـ "إطفائي"، بما في ذلك توسل "النار" نفسها، والواقع أن لديه وسائل تكاد تفوق الحصر، وخاصةً إذا كانت السياسة "مُشَخْصَنَة" والفضاء السياسي متمركز حوله (السياسي).
    ومن سمات السياسي كـ "إطفائي"، أنه "يستثمر" في الحرائق، وذلك في منحيين رئيسين، الأول هو "توظيف" حرائق الغابات مثلاً، سواء أكانت طبيعية أم مُفتعلة، باعتبارها فعلاً سياسياً مُدَبَّراً، بقصد إلحاق الأذية المادية والمعنوية، وتوتير الأجواء وزيادة الاحتقان، كما حدث مثلاً في محيط "عين الكروم" و"أبو قبيس" في منطقة الغاب وسط سورية (آب/أغسطس 2011). هنا يصبح للحرائق بعداً دينياً ومذهبياً نشطاً، وتزاد الفجوة بين الجيران، ويتربص كل طرف بالآخر، بانتظار الفرص السانحة للانقضاض عليه! والثاني هو الاستفادة من اندلاع الحرائق في المناطق الحدودية بين سورية وتركيا في تتبع المعارضة المسلحة وكشف قواعدها ومناطق تسللها عبر الحدود.
    ان "تعزيز" المخاوف من الحرائق قد يؤجل حدوثها، إلا أن عواملها وفواعلها تتراكم فتتحول إلى احتقان ونوع من "التفخيخ" الذي يصعب التنبؤ بانفجاره، وهذا يفسر كيف أن كَسْرَ حاجزِ الخوف أحياناً ما يفتح الأمور على مستويات فائقة من العنف، وربما على نوع من العبثية أو العدمية السياسية. وهكذا فإن السياسي "يستثمر" في الحرائق، ويلعب على مخاوف الناس منها، بقصد استمرار دوره كـ "إطفائي" يحفظ الأمن و"يحي الحمى"! انظر دوره في "اللعب" على مخاوف المجتمعات والتكوينات متعددة الطوائف والأعراق، الخ، حيث يتحول "الخوف من الحرائق" إلى "إيديولوجيا" رسمية، وجزء من إدارة اللعبة السياسية برمتها وليس فقط إدارة الأزمات.
    الحرائق كـ "فعل سياسي"
    إن من طرائف الأمور استهداف "سيارات الإطفاء" على أنها "ذراع" للنظام السياسي، واستمرار لسياساته لكن بوسائل أخرى، إذ تستخدم كوسيلة لتفريق المتظاهرين (بضخ المياه)، كأنما تعمل على "إطفاء" جموح التظاهر بـ "تبرديها" و"تفريق" أصحابها. وقد حدث مثلاً، أن عَمَدَ البعضُ إلى إحراق المحال التجارية والمساكن والمزروعات على أساس طائفي.
    إشعال الحرائق هنا هو فعل سياسي، هو أيضاً "إطفاء" لنار غضبٍ مُتأَجِّجَة من جهة، وهو في الوقت نفسه "إشعالٍ" أو "إيقادٍ" لنار الصراع من جهة أخرى، من خلال استدراج المُستهدَفين لردود أفعال تؤدي إلى إشعال الحرب الأهلية، وما أدراك ما الحرب الأهلية!
    وقد كشفت الأحداث الأخيرة، عن مشاهد عنف عديدة، وانكشفت أوجه من ثقافة تبرر "الحرائق" بكيفية تبعث على الصدمة. وهناك مخاوف من ان تصبح تلك "الحرائق"، هي نفسها، مقدمة لـ "حرائق" أخرى. وقد كانت كوارث الحروب الأهلية في لبنان والعراق والصومال وأفغانستان وغيرها "عِبَرَاً" لمن أراد الاعتبار، ولكن ما حدث هو أنها شكلت "منوالاً" لـ "ثقافة الحرائق"، وكانت من قبل ميداناً للتدريب عليها.
    ثقافة الحرائق!
    كان من المفترض (أو من المؤمل) أن في الذاكرة الثقافية والسياسية والتاريخية ونظم القيم الميتافيزيقية والإنسية، والتجارب القريبة والبعيدة، الخ، ما يساعد في "احتواء" ديناميات العنف والحرائق، إلا أن ما حدث هو انخراط الكثيرين في دوامتها. وقد تحولت تلك الثقافة، وعلي أيدي الدعاة و"المناضلين" إلى "نظام تبرير"، لا بل "نظام إنتاج" لكل أشكال "الحرائق" التي تطال رأسمالنا الرمزي والمادي، وتطال حياتنا ووجودنا.
    هنا تتحول ثقافة العنف والحرائق إلى قوة فائقة التأثير على حياتنا، وتعطي السياسيين والدعاة والمناضلين قدرة كبيرة على إشعالها (الحرائق). وهكذا يصبح قطع الطرق واستهداف الناس، والتمثيل بالضحايا، تقطيعاً أو حرقاً، والتحريض الديني والمذهبي، الخ، تجليات وتنويعات نشطة على مدارك وأفعال لا تقف عند ما صنعته، ولا ما أوقعته من أذى، وإنما تطلب المزيد.
    يقودنا ذلك إلى جزئية أو مظهرية عنفية أخرى، وهي ما نسميها "الهتافات الحرائق"، ذلك أن للتظاهرات والانتفاضات قاموسها الرمزي والميديائي (اللغة واللون والصوت والصورة، الخ) ويتجلى ذلك في مقولاتها وهتافاتها التي يفترض أن تحدد هويتها وطبيعتها. هنا "يُفصحُ" الهتافُ عن النواظم الضمنية والعميقة للفعل السياسي، أو "اللاشعور السياسي" كما يقول "ريجيس دوبريه"، خذ مثلاً الهتافات التي تقول، "علوية ع التابوت، مسيحية ع بيروت"، أو "رجالهم ع السيف، ونساؤهم للكيف"، وهناك هتافات ومفردات أخرى ليس من المناسب ذكرها، مما يتردد إلى جانب هتافات أخرى حول "الحرية"، و"الثورة" و"الكرامة". وقد لا يرى أصحاب تلك الهتافات حرجاً في الجمع بين تلك الشعارات، وهذا ما ندعوه بـ "ثقافة الحرائق".
    السياسي - الإطفائي: الاصطدام بالجدار
    يلجأ السياسي – الإطفائي إلى وسيلتين رئيستين في التعاطي مع الأزمات – الحرائق، الأولى هي الاستعانة بـ "بطانة" من الخبراء والمستشارين والبيروقراطيين الخ الذين يتولون الأمور "من فوق" بكيفية أدت - فيما يتعلق بسورية – إلى اندلاع الحرائق وتأجيجها وليس إطفائها. والواقع أن هذا النمط من السياسيين أَوصَلَ البلاد إلى طريق مسدود، ثم إلى الانفجار! أما الوسيلة الثانية فهي التواصل المباشر من خلال لقاءات متتابعة مع شرائح وقطاعات مختلفة من الناس، والاطلاع على مشاكلهم وآرائهم وتقديرهم للأمور، وحتى اقتراحاتهم لحل الأزمة و"إطفاء" الحريق.
    والوسيلة الثانية، على إيجابياتها، إلا أنها فتحت الباب أمام إشاعة مدارك "شعبوية" وترويج مطالب جهوية وفئوية، الخ، تتناقض مع الإطار الوطني. وقد تردد كلامٌ عن أن الرئيس بشار الأسد سمع مباشرة مطالب تتمثل بإبعاد أبناء جهة أو طائفة ما عن الوظائف العمومية في عدد من مدن البلاد، وكذلك إخلاء القواعد والمطارات العسكرية في مناطق معينة، ومطالب أخرى بإعادة تشكيل المحافظات على أسس جهوية أو قبلية أو طائفية، الخ. هنا يكون مجرد الاستماع إلى مطالب من هذا النوع، مدخلاً لـ "شرعنتها".
    تتطلب التحديات التي تواجهنا (أو نواجهها) استجابات جادة تتمثل في مراجعة عميقة للسياسات المتبعة، و"تدارك" الأخطار وليس فقط "إدارتها"، و"احتواء" الحرائق وليس "إطفائها"، و"نزع" الألغام وليس "تفخيخها"، ومواجهة الأسباب وليس تجاهلها، وتحمل المسؤولية وليس "التَنَصُّل" منها، (الخ)، فكيف "اختلاقها" أو "استدراجها" أو "التذرع" بها.
    ما بعد الإطفائي
    ان الأصل في السياسة هو "الفعل" وليس "رد الفعل"، ومحاولة الإمساك باللحظة؛ كما أن البداهة في السياسة تقتضي المبادرة، ما أمكنت الحيلة والوسيلة، كما تقتضي ما هو أهم أي الثقة، وعندما تغيب الثقة لا يعود ثمة مجال للحوار، ويصبح المجال مفتوحاً أمام كل أشكال الإقصاء والإنكار والتخوين، الخ، الأمر الذي يجعل البلاد بيئة وَلُودَة للحرائق والكوراث.
    إن اجتهاد السياسي لأن يكف عن كونه "إطفائياً"، هو مسألة بالغة الأهمية والحساسية، وهو ضرورة إنسانية، ولا بد من تأسيس فضاء سياسي مفتوح على النقد والتعدد والتداول (الخ)، وهذا ما يجَعل "إطفاء الحرائق" أو "إدارة الأزمات" عملية مؤسسية تصدر عن إرادة الناس، وهو ما يجعل الأمور تسير بالاتجاه الصحيح، فلا يكون السياسي مجرد "إطفائي"، بالمعنى الانفعالي، ولا "صانع حرائق" بالمعنى الانتهازي أو المكيافيلي، وإنما صانع لسياسة نشطة وقادرة على "احتواء" مصادر "الحريق" ما أمكن.
    إن ثمة دائماً فسحة للشروع في الحوار، لأن الحوار هو حاجة "أولية" بالمعنى الفرويدي، وهو حاجة "كلية" بالمعنى الأرسطي، وهو مع كل ذلك حاجة وطنية وإنسانية، من أجل "تأسيس" أو "تدشين" قطيعة مع السياسات المفضية إلى الحرائق، ومن أجل تأسيس فضاء سياسي يشمل الجميع، لأننا بعد كل الصراعات والأزمات، وبعد كل الكوارث التي حدثت، محكومون بالحوار، ولن يُطفئ الحرائقَ إلا الحوار.
    هنا على السياسي – الإطفائي أن يتجاوز نفسه من خلال سياسات شاملة تبدأ بـ: تفكيك عوامل الاحتقان الداخلي، واحتواء مصادر التهديد المختلفة، والإجابة العلمية والموضوعية على سؤال: "لماذا يثور الناس""، أو "لماذا تندلع الحرائق؟"؛ بهذا تتحول الأزمات - الحرائق إلى فواعل تغيير جدية، يتحول معها "الإطفائي" الذي تحدثنا عنه إلى "سياسي".
     



مقال سيريا بوليتيك

  • خلصت !

    ما هو شعور أهلنا من السوريين النازحين الذين تهدمت بيوتهم ؟ نفسيا، هو شعور بالألم والحزن لا مثيل له. إنه شعور رجل عجوز بنى بيته حجرا...التفاصيل »

    بقلم : هيئة التحرير

آراء

تابعونا