رغم تجربة مصر مع الاخوان المسلمين، التي بدأت بوعود ليبرالية جدا لم يلبث هؤلاء أن رفضوا الالتزام بأي وعد منها، بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية. ورغم ما أثاره تنكرهم لوعودهم من استياء في الشارع الشعبي المصري، يلمسه المرء بمجرد أن يتحدث مع أي مواطن مصري. ورغم الأثر البالغ السلبية الذي تركه سلوكهم على مصداقية الاخوان المسلمين في كل مكان من عالمنا العربي، وخاصة في سوريا، حيث يعتقد قطاع واسع من مواطني ما يسمونها الأقليات ومن المسلمين الليبراليين أن الاخوان لن يلتزموا في بلادنا أيضا بما يقطعونه على أنفسهم من عهود ومواثيق ويغدقونه علينا من وعود سخية، فقد سررت كثيرا بما أسماه الاخوان المسلمون السوريون «عهدا وميثاقا»، وامتدحته في مقالة كتبتها حول التغيير الحاصل في مواقفهم ونظراتهم، الذي رددته إلى تغير أحوال الكون ورغبتهم في مجاراته إسلاميا ووطنيا.
لكنني، وبكل صراحة، بدأت أشك في صحة نظرتي وموقفي بعد ما وقع في «ورشة عمل البحر الميت حول المواطنة والدولة الديموقراطية / المدنية في سوريا»: فبعد ساعة من الاستماع إلى ما قاله المنتدون، لفت أنظارهم إلى أن واقع الحراك في سوريا ليس وردياً، وأن إصلاحه سيقلل عذابات الشعب وسيأخذنا إلى نظام ديموقراطي بديل لن يكون خلواً من المشكلات، لأن أي بناء ديموقراطي سيبدأ من حيث انتهى الاستبداد، وسيحمل بالضرورة بعض عيوبه، ولن ينجح في التخلص منها بل يكون عرضة للانتكاس إن لم يتصدَّ لها بعقلية وممارسة ووسائل ديموقراطية. وأردفت: إلى أن نصل إلى هذه المرحلة ونعالج مشكلاتها، دعونا نفعل شيئا من اثنين: التفكير بجدية في سبل بلوغ الديموقراطية، وبالتالي سبل التخلص من النظام، أو في المشكلات التي سيتركها الاستبداد لنا والحلول الممكنة لها، لأننا في هاتين الحالتين فقط نعالج مشكلات واقعية، وإلا فإن أحاديثنا حول الدولة الديموقراطية / المدنية ستكون من طبيعة محض كلاميـة، ولن تكون ذات قيمة: أولا لأنها تعالج واقعا افتراضــيا لن نصل إليه إذا لم يذهب النظام، وثانيا لأن من غير الجـائز القفز على واقعنا القاسي إلى بديل وردي لا وجــود له في حياتنا، وتضييع جهودنا في الكلام علـيه، بينما تمس حاجتنا إلى التصدي للمشــكلات التي نعاني منها الأمرين اليوم. بعد أن شرحت ما جرى على الأرض خلال عام الثورة الأول، وحللته وفكــكته، اقـترحت إصدار بيان عن اللقاء يتضمن أسسا محددة لتطبيع العلاقات بين أطراف المعارضة، هي ضرب من مدونة أخلاقية تحتوي مضامين سياسية واضحة، إلى جانب إرسال رسالة إلى الأمين العام للجامعة العربية تدعم اقتراحا كان المنبر الديموقراطي السوري قد قدمه إليه في لقاء معه، يقوم على حوار وطني بين أطراف المعارضة مادته ميثاق المجلس الوطني السوري، الذي أقر في اسطنبول، والانطلاق مما يتفق عليه بين هذه الأطراف لتحديد موقف موحد من مهمة كوفي أنان يركز على ضرورة بقاء الموقف الدولي موحدا وراءها، ويرسم صورة تفصيلية للمرحلة الانتقالية، وسبل دعم الحراك الشعبي السلمي.
حظي الاقتراح بحماسة كل من في الورشة، بمن في ذلك الاستاذ علي صدر الدين البيانوني، كبير جماعة الاخوان المسلمين السورية فيها، الذي عبر عن تأييده له بكلمات واضحة وعلنية سمعها كل من كان في القاعة، تم بعدها تكليفي بصياغة نص ما أسماه المنتدون «مبادرتي»، على أن تتم مناقشتها في بداية جلسة اليوم التالي المكرسة لمسألة «الدولة والدين «. في اليوم التالي، جاء من يخبرني أن الأستاذ البيانوني غيّر رأيه بعد مشاروات هاتفية أجراها ليلا مع جهة ما، وأنه لن يوافق على مناقشة الاقتراح، لأنه صار يرى فيه محاولة للالتفاف على ميثاق المجلس الوطني السوري. ذهبت إلى الأستاذ، الذي تجمعني به معرفة قديمة، كي أستطلع موقفه، فقال إن اللقاء لا يجوز أن يكون معنيا بأمر كالذي اقترحه، لأنه ليس بين موضوعاته، وأنه لا مجال لمناقشته أو للموافقة عليه، وإن كان موافقا على تشكيل لجنة يصدر عنها بيان حول موضوعــات الندوة. ذكّرته بأن اللقاء يستطيع إصدار مواقف تتصل بشؤون وشجون لم يتم بحثها فيه، إن وافق الحاضرون على خطوة كهذه، فكرر رفضه، رغم أنني كنت قد صغت نص البيان بعد موافقة المنتدين الإجماعية بالامس، بينما قام المركز بطباعته وتوزيعه وإيصال نسخة منه إلى الاستاذ البيانوني، الذي أخبر من أعطاه إياه أنه قرأه لكنه لن يوافق على إقراره. في هذه الأثناء تبدل موقف الاخوان المسلمين في القاعة وانقلب إلى تحفظ وصمت وشوشرة.
لم يناقش النص في بداية الجلسة الصباحية، كما تقرر بالامس دون أي اعتراض من أي منتد، ونقل النقاش حوله إلى نهايتها. خلال الجلسة، قال الأستاذ البيانوني إن جماعته منفتحة العقل على أي تعديل أو اقتراح يطاول نص «العهدة الوطنية»، الذي كانت قد أصدرته قبل يوم من وصول الدعوة التركية /القطرية إلى توقيع ميثاق المجلس الوطني السوري في مكة العرب والمسلمين الجديدة: اسطنبول. تقدم بعض الحاضرين بتعديلات على النص الاخواني، تركز معظمها على فقرة تقول في وصف الدولة التي يعد الاخوان بإقامتها: «دولة مواطنة ومساواة: يتساوى فيها المواطنون جميعا على اختلاف أعراقهم وأديانهم ومذاهبهم واتجاهاتهم، تقوم على مبدأ المواطنة التي هي مناط الحقوق والواجبات، يحق لأي مواطن فيها الوصول إلى أعلى المناصب، استنادا إلى قاعدتي الانتخاب أو الكفاءة. كما يتساوى فيها الرجال والنساء في الكرامة الإنسانية والأهلية، وتتمتع المرأة فيها بحقوقها الكاملة». اقترحت أن يلي كلمة أي مواطن من النص إضافة أو مواطنة، وأن يحذف من النص الكلام الذي يلي جملة: «يتساوى فيها الرجال والنساء... إلى آخره» بسبب غموضه والتباسه. لم يعلق «الأستاذ» على الاقتراح قبولا أو رفضا، مع أنه تفاعل بإيجابية مع الاقتراحات التي أبداها الآخرون. من جانبي لم أفهم الأمر بصورة شخصية، وفكرت بأن الأستاذ ربما كان يتبنى موقفا لا يرفض مساواة المرأة بالرجل. في جميع الأحوال، لفت نظري أن النص الذي قدم لنا في اللقاء لم يتضمن فقرة تقول إن العهدة الوطنية ترى ما تقوله وتعد به «من منظور إسلامي». حين قرأت هذا الكلام للمرة الأولى، تذكرت دعوة إخوان مصر إلى إقامة دولة مدنية وتنكرهم لها بزعم أن مرجعيتها هي الشريعة الإسلامية، فكان في قولهم هذا نفيا تاما لمدنية الدولة، بل للدولة ذاتها. هذه المرة، تساءلت إن كان حذف الفقرة من النص يعني حذفها من عقول الاخوان ونفوسهم، أم اننا أمام تذاك سياسي يريد الالتفاف على مسألة ينسف إيرادها في العهدة كل ما تضمنته ووعدت به من ديموقراطية ودولة مدنية وحقوق وحريات... الخ. هل حذف الاخوان الكلام من النص وأبقوه في عقولهم ونفوسهم، أم ـ وهذا هو الأهم ـ حذفوه منها ايضا؟ بصراحة: صرت أشك في أنهم فعلوا هذا، والدليل حديث السيد البيانوني عن ميثاق المجلس الوطني السوري، الذي قال إنه ليس عضواً فيه، لكنه منع إصدار نص يقول في مادته الأولى: لن تكون مواقفنا وآراؤنا نقاط فصل ومتاريس تفصل بيننا، ولا بد أن نجعل منها نقاط تواصل وتفاعل وتكامل بيننا»، وتعد مادة أخرى منه: «بالمحافظة على سلمية الثورة والعمل على إخضاع السلاح لمواقف سياسية موحدة بدل إخضاع مصير الحراك للسلاح». وتلزم مادته الأخيرة «بعدم انفراد أحد من المعارضة بحوار أو تفاوض مع النظام... الخ». هذا الكلام رُفض بحجة وجود ميثاق «المجلس»، كأننا وضعنا قرآنا جديدا لا يجوز بعده أي كلام عن أي شيء يتصل بالمعارضة وسلوكها وعلاقاتها. في جلسة الظهر، التي طرحت فيها مسألة «المبادرة»، قال الاستاذ البيانوني إنها لم تصله ولم يقرأها، وإنها لم تطرح للحوار، بينما انتقد شخص من جماعته بندا منها يتعلق بالتدخل العسكري الخارجي قال إنه يتضمن اتهاما مبطنا «للجماعة» و«المجلس». رددت بأن النص سيناقش إن كان هناك موافقة على مناقشته، وسيعدل ويبدل بالقدر الذي يتوافق عليه المنتدون، فهو ليس نصا مقدسا أو نهائيا. لكن «الأستاذ» وجماعته ذكرونا بالحجة الثانية، وهي أن إصدار نص كهذا ليس من موضوعات الندوة ولم يكن مقررا بالأصل، علما أنهم رفضوا إصدار بيان عام عن أعمالها في اللجنة التي شكلت لهذا الغرض، ربما لأن مدير المركز والندوة اقترح التوفيق بين النص وما سيقال حول أعمال الندوة في البيان الختامي الذي سيتم التوافق عليه.
ثمة في النهاية مسألتان لا بد من التعريج عليهما: اولاهما أنه تم باسم نهائية نص «الميثاق» الاعتراض على إصدار بيان يتضمن بعض بنود مدونة أخلاقية ذات مضامين سياسية حول عمل المعارضة وعلاقات أطرافها. فهل صار علينا ان نرى في «الميثاق» نصا مقدسا لا يحق لنا قول أو عمل أي شيء خارجه، أو الاعتراض عليه وانتقاده واقتراح بدائل له أو تعديلات عليه، وهل علينا اعتباره نصا يضم علوم الأولين والآخرين، لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؟ وثانيتهما أنه عندما كان يتم الحديث في الندوة حول أية قضية كان الأستاذ البيانوني يذكره بنص إخواني ما حولها، كأن نصوص «الإخوان» مقدسة بدورها وتتضمن حلولا لجميع مشكلاتنا النظرية والعملية، فهذا نص صدر عام 2001 وذاك عام 2004، وما لم تتضمنه تلك النصوص موجود اليوم في «العهدة الوطنية». .. الخ. حدث هذا عند مناقشة أية نقطة وأي موضوع، فالإخوان المسلمون السوريون لديهم اليوم إجابات شافية وافية عن أي سؤال طرحه أو قد يطرحه الواقع العملي والنظري اليوم وغدا وإلى أبد الدهر. لقد فكروا عنا إلى الحد الذي يبيح لهم مصادرة حقنا في عقولنا، فإذا ما أضفنا إلى ما تقدم رفض ما اقترحته لأن السيد البيانوني، الذي ليس عضواً في «المجلس الوطني»، وجد من يذكره في محادثة الليل الهاتفية مع عضو ما في «المجلس» بأن الجماعة لا يجوز أن توقع وثيقة يقترحها طرف خارجها، وأن على غير المجلسيين أن يروا في الموافقة على ميثاقه موافقة على الانتساب إليه وليس فقط على الأسس التي يتضمنها، عرفنا أي مصير شمولي السمات والصفات ينتظرنا، إن هم انتصروا في معركتهم على السلطة، التي يبدو بجلاء أنها معركة ضد بقية أطراف المعارضة أيضا. يتوهم «الاخوان» أن لديهم كل ما يلزم سوريا على صعيد المبادئ والسياسات، وأنه لا يوجد حتى في عالم الاحتمالات النظرية والعملية ما يمكنه أن يكون خارج متناول عقلهم النظري والعملي، والدليل عهدتهم الوطنية والميثاق التركي / القطري، الذي يمثل نقطة فصل بين زمنين وتاريخين في العمل السياسي السوري، يحول بينهم وبين قبول أي اقتراح يقدمه غيرهم، بعد أن وضعوا يدهم على أجزاء متفرقة من الحراك الداخلي وبعض المسلحين، وزادوا فرصهم في الانفراد بالساحتين الداخلية والخارجية؟
هل يعتقد الاخوة في «الجماعة» أن بوسعهم تغطية حساباتهم العملية بوعود فضفاضة يتسم كثير منها بالغموض «الخلاق»؟ وهل يظنون أن وعودهم تمنعنا من رؤية مواقفهم العملية، التي كشفت في ندوة البحر الميت كم تتناقض خياراتهم مع نصوصهم، وأفهمتنا أن ما يجب أن يغيروه كامن في النفوس وليس في النصوص، وأن نصوصهم لن تحجبه عن الأعين مهما كان تلفيقها متقنا!
"السفير"