الشعور العام في دمشق أن 18 تموز (يوليو)، يوم سقوط الجنرالات الأمنيين، هو لحظة فاصلة في مسار الثورة السورية، بخاصة أن خسارة النظام بعض مخططي القتل الكبار، جاءت بعد 4 أيام على تحول مدينة دمشق إلى جبهة المواجهة المسلحة الرئيسة.
يتجه أقوى الترجيحات إلى أن النظام سيمضي في ما تمليه عليه غريزته العميقة، القتل، وسيتوسع فيه. هذا بالفعل كان رد فعله المباشر على مقتل الجنرالات. يحتمل أنه سقط حوالى 350 شهيداً يوم 18/ 7، أكثرهم في دمشق، ومنهم 137 على الأقل ضحايا قصف استهدف مشيعين لأحد الشهداء في حي السيدة زينب. وفي اليوم التالي سقط حوالى مئتين، أكثرهم في دمشق وحولها أيضاً. وهذا بعد أن كان متوسط عدد الشهداء اليومي في البلد ككل أدنى من 100 في الأسابيع الأخيرة.
ولكن في الوقت ذاته تتسارع علامات التفكك والانهيار، انشقاقات متزايدة في الجيش، ومعنويات متدنية لرجال النظام، يزيدها تدهوراً احتمال أن يكون بشار الأسد هرب الى اللاذقية على ما تقول معلومات متواترة، ما يعطي رسالة مقلقة للموالين. والأهم تآكل متسارع لسيطرة قوات النظام في الأطراف، وخروج كامل لبعض المناطق عن السيطرة في الشمال الحلبي (تواترت معلومات الخميس عن سقوط منافذ حدودية سورية - تركية في الشمال الحلبي في يد كتائب «الجيش الحر») والإدلبي والشرق الديري (سقوط منفذ البوكمال في أيدي الثوار المسلحين) والجنوب الحوراني. سبق أن سيطرت المقاومة المسلحة على كثير من هذه المناطق، لكنها لم تكن قادرة على الاحتفاظ بها. اليوم، ومع تحول دمشق إلى ميدان المعركة الرئيس، لن تستطيع قوات النظام العودة إلى هذه المناطق. وسواء صح أو لم يصح أن هناك وحدات عسكرية تقصد دمشق من درعا ومن جبهة الجولان، فإن الانكفاء إلى العاصمة هو الاتجاه المحتم لحركة قوات النظام. في النتيجة، الأطراف تتحرر.
هذه كلها عمليات بدأت للتو، ويصعب تقدير مساراتها والمنعطفات التي قد تمر فيها.
يعرض الوضع السوري منذ بداية الثورة سمتين متناقضتين: استحالة التوقع على المدى القريب من جهة، والمسار المحتوم ذا الاتجاه الواحد نحو سقوط النظام على المدى الأطول، من جهة أخرى. نعرف المحطة الأخيرة يقيناً، نهاية «سورية الأسد»، لكننا لا نعرف شيئاً عن الدروب التي ستفضي بنا إليها. وما حققه يوم سقوط الجنرالات (ومن المحتمل أن ماهر الأسد بينهم) هو قفزة في تسارع الزمن السوري. صار يقاس بالساعات والأيام، بعدما كان يقاس منذ بداية الثورة بالأسابيع والشهور، وبالسنوات والعقود طوال أكثر من أربعين عاماً من الحكم الأسدي.
وبينما لا يزال وارداً أن يتفوق النظام على نفسه في الجنون، ويرتكب مجازر أوسع نطاقاً من كل ما سبق، لا يُستبعَد أيضاً أن «يفشَّ» مثل بالون منفوخ، وبمقدار من المقاومة أقل مما نتخوف. مزيج من هذا وذاك هو ما نرجح أن يحصل.
مشهد دمشق في هذا الوقت يوحي بقيامة صغرى. تجولتُ في شوارع رئيسة في منتصف المدينة بعد ظهر الخميس الماضي. كانت الشوارع خالية أو تكاد، المناطق التجارية في الصالحية والحمرا والشعلان وشارع 29 أيار والبحصة والمرجة والحلبوني مغلقة. المقاهي التي لم أحاذر المرور من أمامـــها هذه المرة قليلة الرواد، ونسبة حركة المشاة والسيارات في الشوارع في حدود 10 في المئة بالكاد. المدينة مضربة، في مزيج من الرغبة والرهبة، الاحتجاج والخوف. أما ميسورو المدينة فقد عبر 20 ألفاً منهم إلى لبنان يوم الخميس.
مقاتلو «الجيش الحر» لا يخفون أنفسهم في مناطق متعددة جنوب المدينة وشرقها. والمتجول، وفق معلومات ناشطين شبان، يكاد أن لا يعرف أين ينتهي انتشار قوات النظام ويبدأ انتشار مجموعات المقاومة المسلحة. في العموم تسيطر قوات النظام على شوارع رئيسية، وينحسر نفوذها في داخل الأحياء والضواحي. لكن هذا واقع متغير. بالكاد انقضت خمسة أيام على بدء «معركة دمشق»، وكل ساعة تأتي بمعلومات جديدة، يصعب التيقن من صحتها دوماً. لكن الاتجاه العام مؤكد: النظام سائر نحو الانهيار.
نقدّر أن يجري في دمشق على نحو ملخص، ما سبق أن جرى في حمص وإدلب ودير الزور ودرعا...: تهاجم قوات النظام مناطق الثائرين، تلحق بها دماراً واسعاً، تفوز في أية مواجهة موضعية، لكنها تخفق نسقياً في تحجيم الثورة، وتخسر المواجهة الأوسع، وتسير بثبات نحو خسارة الحرب التي فرضتها على المجتمع السوري.
وبينما يبقى توقع الأمد القريب ممتنعاً، نكاد أن نجزم بأن دمشق لن تكون حمص أخرى، ولا دير الزور أخرى. ربما يفكر النظام في تحطيم أحياء في دمشق، الميدان أو برزة أو القابون...، لكنه سيواجه «القانون الحديد» الذي يتحكم بحربه في النطاق السوري العام، وبإيقاع أسرع: يزج بالجيش في المواجهة، فينشق الجيش، وينضم أكثر المنشقين للمقاومة المسلحة؛ يؤذي كثيراً المنطقة التي يستهدفها، لكنه يخلق على نطاق واسع مقاومين مدنيين. وكلما صعّد النظام عنفه في مواجهة الثورة خلق مقاومين بعدد أكبر، وباحتقار أكبر له وتشدد أكبر في مواجهته، وبيقين أكبر بعدالة قضيتهم. هذا حصل طوال 16 شهراً من الثورة، وهو في سبيله إلى أن يتكرر في دمشق بتواتر خاطف. ولم يستطع عقل النظام مجسداً في بشار الأسد وفي جنرالات حربه، أن يستخلص شيئاً أو يفهم شيئاً. فلا هو استطاع إقناع أحد بأن له مبدأ من أي نوع، ولا هو جنح للسياسة في أي وقت. راهن على تحطيم الثورة وإبادة الثائرين، لكنه قاد نفسه إلى الغرق في الدم أكثر وأكثر، وسيموت به.
في مطلع رمضان العام الماضي، بعد أربعة شهور ونصف شهر على الثورة، صعّد النظام حربه ضد الاحتجاجات السلمية الســـورية، متسبباً بعد قليل في قفزة في المقاومة المسلحة. في مطلع رمضان هذا العام، يحتمل أن هناك 100 ألف مقاتل مسلح، على يقين راسخ بعدالة قضيتهم، وعزم لا يُغلب على الانتصار لها. لا يستطيع النظام فعل شيء حيال هذا. الأمر محسوم.
القيامة الكبرى قد تقع في أي وقت.
نقلا عن "الحياة"