في تصريح لرائد الفضاء المنشق اللواء المتقاعد محمد فارس قال إن "الرئيس الراحل حافظ الأسد همّشه".
لا نعرف على وجه التحديد كيف همشه، وهو الضابط الطيار في الجيش وفي اختصاص أقصى ما يصل إليه الضابط هو قيادة فرقة، ولو كانت سوريا قد أطلقت قمرا صناعيا لم يستلم إدارته، أو "وزارة للفضاء" ولم يكن وزيرها لكنا قلنا إنه فعلا تم تهميشه. علما أن رائد الفضاء محمد فارس وصل إلى رتبة لواء وتسلم منصبا رفيعا في القوى الجوية وهو مدير إدارة التنظيم والإدارة فيها.
بعد أن صعد إلى الفضاء، برفقة الروس، تحول سيادة اللواء المنشق إلى رمز وبطل في وجدان كل سوري، ومحبته كانت في كل بيت من الساحل إلى البوكمال ومن باب الهوى إلى درعا. في المدارس، وأثناء المناسبات الحزبية والوطنية والقومية لم تمر مناسبة إلا وذكروه فيها، كما طبع اسمه في كثير من الكتب، ومنها المدرسية خاصة تلك التي تتحدث عن "الإنجازات في الجانب العلمي"، ولم يخرج تلميذ من المدارس السورية إلا وقد كان يعرف من هو محمد فارس، ويحب محمد فارس إلى درجة التقديس واعتباره رمزا من رموز السيادة الوطنية وفي حبهم هذا لم يفكروا يوما إن كان محمد فارس من حلب أو القرداحة، فهل يوجد تكريم أفضل من ذلك ؟!
وحتى عندما أعلن انشقاقه، لم ينل أي هجوم من مؤيدي النظام – الذين ينتقدون ويهاجمون أي منشق- نظرا لرمزيته الخاصة في قلوب جميع الناس.
وعلى العكس، فقد كان اللواء فارس محظوظا ومحظوظا جدا في عهد الأسد الأب، ولكن لماذا ؟ لأن حظه أفضل من حظوظ أبناء جيله واختصاصه سواء من ضباط القوى الجوية أو الدفاع الجوي الذين كان يتقاسم كل خمسة منهم سيارة "جيب واظ" تمشي يوما وتعطل شهرا !
من المؤسف أن يخرج على لسان اللواء المنشق هذا التصريح: "قال اللواء محمد فارس إن اختياره للمشاركة في الرحلة الفضائية قوبل بالرفض من بعض الجهات التي قال إنها ترى أنها باعتبارها تحكم البلد فإن رائد الفضاء يجب أن يكون من أبنائها أي من الطائفة العلوية. وأضاف أن رد فعل منافسه الضابط العلوي منير حبيب كان سلبيا".
فعلا إنه لمن المؤسف، ولكن لماذا ؟
صحيح أنه إنجاز وطني كبير بنظر السوريين أن اللواء فارس شارك في عام 1987 بالصعود على متن مركبة الفضاء السوفيتية سيوز، ولكنه إنجاز لم ولن يكون أكثر أهمية ووطنية وشجاعة بنظر السوريين وبنظر كل محلل استرايتجي عسكري من إنجاز العميد عصام أبو عجيب ( ابن بلدة القدموس في الساحل).
العميد الراحل عصام كان برتبة نقيب في سلاح الدفاع الجوي السوري في حرب في تشرين عام 1973 عندما كان يقود كتيبة كفادرات(سام 6 محمولة على مدرعات) وتمكن من إسقاط 43 طائرة إسرائيلية خلال الحرب، وبسبب إنجازه المذكور حصل على وسام بطل الجمهورية، وأصبح لاحقا في الثمانينات رئيسا لأركان فرقة الدفاع الجوي في المنطقة الجنوبية إلى حين اعتقاله ( نعم اعتقاله ! ) عام 1989 لأنه أبدى بعض الملاحظات والآراء إزاء سياسات النظام (وليس المجال لذكرها بالتفصيل)، وبقي معتقلا بدون محاكمة حتى 1995 حيث خرج مريضا جدا من سجنه وبقي في وضع صحي صعب حتى وفاته عام 2000.
وبعد هذه القصة، يقول لنا سيادة اللواء المنشق أنه تم تهميشه ؟! وبعد هذه القصة يقول لنا إن " الرئيس الراحل حافظ الأسد قام بعد عودته مباشرة من الفضاء بركنه في بيته دون عمل لمدة 9 سنوات" ؟!
عصام أبو عجيب أسقط 43 طائرة إسرائيلية ومع ذلك "تم ركنه في السجن" لأنه أبدى بعض الآراء المعارضة، وحضرة اللواء فارس "تم ركنه في البيت" ( نستخدم تعبيره !) بعد رحلة فضاء ! من الذي تم تهميشه يا سيادة اللواء: من تم وضعه في السجن، أو أؤلئك الضباط الذين كانوا يتقاسمون سيارة "جيب واظ"، أم حضرتك ؟!
هل سمع يوما اللواء فارس بضابط بارز في الدفاع الجوي هو العقيد نديم سعيد الذي اعتقل بتهمة الانتماء لحزب شيوعي في السبعينات وتم تسريحه من الجيش ؟!
هذا الكلام عن الطوائف غير جدير أن يخرج من اللواء فارس، خاصة وأنه كانت لدينا قناعة بأن من صعد إلى الفضاء ورأى سوريا من الأعلى من بين النجوم والكواكب لن يراها إلا كذلك في بقية حياته خاصة وأنه أصبح "فضائيا" وقد ترك خلافات أهل الأرض ومشاكلهم الطائفية جانبا.
لو تمت معاقبة وتهميش محمد فارس لأنه ليس علويا كما يقول، ماذا يمكن أن نسمي قصة العميد عصام أبو عجيب، وماذا يمكن أن نقول عن صلاح جديد ومحمد عمران ؟!
جملة نقولها لسيادة اللواء المنشق: عندما هرب النقيب الطيار بسام العدل بطائرة الميغ إلى إسرائيل، لم ينظر السوريون إليه بوصفه حلبيا، أو مسلما سنيا، بل نظروا إلى الأمر من زاوية الكارثة وهي أن يقوم ضابط طيار سوري بهذا الأمر.
وحتى أبناء الساحل، عشقوا محمد فارس وأحبوه كثيرا كبقية أبناء وطنهم، حتى أنهم ألفوا نكتة في ذلك الوقت انتشرت في كل مكان: من المعروف أنه خلال وجود محمد فارس في الفضاء حصل اتصال بينه وبين الرئيس حافظ الأسد الذي سأله ماذا ترى من عندك فقال له إنه يرى سوريا الحبيبة، إلا أن أبناء الساحل غيروا محتوى المحادثة في المكالمة وحولوها إلى نكتة سياسية حيث كان جواب محمد فارس- حسب النكتة- بعد أن سأله الأسد ماذا ترى من عندك أجابه فارس "أرى عمارة (فيلا) علي دوبا" !
وأخيرا، نتساءل بلغة مجازية أدبية ورمزية هل تصريحات رائد الفضاء السوري محمد فارس هي "قفزة فيليكس" على الطريقة السورية؟!
العام كله بات يعرف قفزة "فيليكس" الشهيرة، والتي استحوذت على اهتمام ملايين البشر على سطح الكرة الأرضية، وهي قيام المغامر النمساوي فيليكس باومجارتنر بالقفزة من على حافة الغلاف الجوي والوصول إلى الأرض، وهو ما يعتبر إنجازا علميا أكثر من كونه مغامرة.
وبالتالي، أن ينزل رائد فضاء – صعد إلى الفضاء منذ الثمانينات- وشاهد الأرض وسوريا من الأعلى من بين النجوم والكواكب، ورأى عظمة الخالق في خلقه لهذا الكون، وفي مشهد شاعري، أن ينزل إلى مستوى الحديث عن قضايا طائفية ( هذا سني .. وذاك علوي)، فهي ولاشك قفزة فيلكيس ولكن على الطريقة السورية !