"كأس المتة" كانت تشير دائما إلى جلسات الصحبة والرفقة والسمر بين الشباب السوري، في جامعاتهم، وأحيانا في مكان العمل، وكثيرا ما يجتمع عليها سوريون في غربتهم.
في الغربة مثلا، عندما يقوم سوري بتقديم إبريق ماء ساخن و"جوزة متة" -اختلطت بالزعتر أو "الزهورات الشامية"- لصديق زائر له في منزله، فهي دليل على حجم الألفة والتآخي والحميمية السورية في الغربة.
النسبة الكبرى من "شاربي المتة" تنحدر من الساحل السوري، وجبل العرب (السويداء)، ولكن هذا لا يعني أن هذا المشروب حكر على طبقة، فئة، أو مجموعة سورية ما، بل صار في كل بيت سوري من حمص إلى دمشق وحلب والمنطقة الشرقية، وبالكاد يوجد بيت سوري بلا "متة". رغم ذلك قدمته أعمال درامية سورية على أنه مشروب لا يتجزأ من الثقافة الساحلية، ولا يزال هناك اعتقاد سائد يربط المتة بالساحل وجبل العرب، وهو ربط لا مشكلة فيه أبدا لأن كل طبقة اجتماعية، أو منطقة جغرافية في سوريا، لها تقاليدها وبعض المشروبات والأطعمة التي ترتبط عادة بثقافة وعادات هذه الفئة أو تلك، وكلها محل احترام.
لكن ماذا حصل مؤخرا ؟ وكيف تحولت "كأس المتة" إلى رمز لصراع سياسي وعنصرية غير مسبوقة من قبل بعض- نقول بعض- السوريين ؟
إليكم مثلا بعض الجمل المكتوبة على صفحات الفيسبوك أو بعض المواقع السورية حول "المتة"، منذ بداية الأزمة في البلاد:
- الشبيحة في معاناة كبيرة بعد ارتفاع أسعار المتة، - حجم العنف ارتفع بعد انقطاع المتة عن مرتكبيه، - شاربو المتة الهمجيون .. - شربونا متة تلاتين سنة وضحكوا علينا.. والآن سوف نذيقهم كأسا مرا ..
وهذا فضلا عن الصور "الفوتوشوبية" المنتشرة على الفيسبوك، والتي تربط بين كل مشهد دموي، أو دمار، أو انتهاك لحقوق الإنسان، وبين كأس المتة. وبعضها يظهر مسؤولا ما يشرب المتة ويصدر قرارات.
وبهذه الحالة، قام البعض باستبدال ماضي المتة وما حمله من ألفة ومودة بين الأصدقاء إلى رمز للتعبير عن "الحنق والغضب" تجاه فئة اجتماعية سورية لا تخفي "عنصرية غير مسبوقة" لأنها محاكمة وإصدار حكم وسخرية من فئة اجتماعية كاملة عبر "المتة" وتقاليد هذه الفئة، وهم مخطئون في ذلك لأن "المتة أصبحت مشروبا عابرا للمدن وفوق المذهبية والطائفية" في البلاد !
ومن باب السخرية السوداء نتساءل: هل يأتي يوم، وتُحاسب فيه فئة اجتماعية ما لأنها لا تشرب الشاي والمتة والزهورات الشامية وفق مذهب معين أو طريقة سياسية خاصة، أو يصدر مرسوم يمنع شرب المتة لأنها ترتبط مثلا بتاريخ سوري مؤلم ؟ وتتم محاكمة شاربي المتة، أو من يحاول تهريب علبة متة، بتهمة "إحياء ذكريات مؤلمة" عند الشعب السوري ؟!
في الأربعينات، والخمسينات، وقبل أن تصل شخصيات بارزة كثيرة من الساحل، أو جبل العرب، إلى دمشق، كانت البارات تنتشر في العاصمة دمشق، والسلطات تصرف النظر عنها، ولا تزال حتى اليوم. لكن هل كان يجوز في ذلك الوقت محاكمة أهالي دمشق بسبب وجود بعض البارات ( طبعا مع انتفاء المقارنة لأن المتة غير محرمة وفق التعاليم السمحة للدين الاسلامي الكريم، بينما البارات محرمة) ؟ بالتأكيد لا ، لأنه مقابل كل شخص يذهب للبار هناك آلاف من أهل المدينة يرفضونها رفضا قاطعا، ولكن هذه هي سوريا: من شاء فليذهب للجامع ويصلي، ومن شاء فليذهب للبار، وهذه قرارات شخصية، والله الخالق العظيم والرحيم وحده من يحاسب الناس. كانت البارات تستضيف مثقفين، سياسيين، وصحفيين، وعسكريين، وعامة الناس. البارات في كل مكان من العالم ليست جزءا من تقاليد أي جماعة أو فئة اجتماعية، ولا يجوز محاكمة الناس في منطقة ما لهذا السبب.
ولذلك، السخرية من فئات اجتماعية سورية من خلال كأس المتة "غير مبرر"، ولا يجوز أصلا، لأن شارب المتة قد يكون شاميا أو ديريا أو حمصيا أو من أي منطقة سورية، فضلا عن أن عادات وتقاليد جميع الفئات الاجتماعية السورية يجب أن تبقى محل احترام وعدم سخرية على الإطلاق، وإلا كيف سيقتنع الناس بالكلام عن مستقبل مزدهر ينعم بالحرية والرخاء في البلاد – إذا كانت البداية بمحاكمة شاربي المتة والسخرية منهم ؟!