في التصريح الذي أدلى به الدكتور برهان غليون، الرئيس السابق للمجلس الوطني السوري، لوكالة الصحافة الفرنسية، الكثير من النقاط التي تحتاج الى تدقيق ومراجعة كي نكتشف ما اذا كان محقا في ما ذهب اليه حول وضع المجلس الوطني السوري، والانقسام بين الاسلاميين والعلمانيين، وعلاقة قاعدة التوافق بجمود المجلس طوال الاشهر الماضية، وقوله: «انه استقال لأنه لا يرضى ان يكون مرشح الانقسام».
يمكن ان نقول بحسم ان ما ذكره الدكتور غليون عن جمود المجلس وعدم تحركه بالسرعة التي يتحرك بها الحراك الشعبي السـوري صحيح ولا غبار عليه، لكن المسألة ليست في دقة وصف واقع المجـلس، بل، كما تقضي قواعد المنهج في اسئلتها الاولية: لماذا، ومتى، واين، وكـيف... الخ، في تحديد الاسباب، والمسببين، التي يعرفها، والتي كان السبب الرئيس فيها.
تشكل المجلس الوطني، كما هو معلوم، على قواعد اولاها التوافق السياسي على الوقوف في صف الثورة وتبني مطلــبها اسـقاط النظام بكل رموزه ومكوناته، وثانيتها، وهو وجه اجرائي للاتفـاق، تساوي حصص المكونات في المجـلس، والـتداول على رئاسة المجــلس، وقد حددت فترة الرئاسة بثلاثة اشهر، واعتماد التوافق حول المستجدات السياسية.
هل كان التوافق السبب في بطء المجلس أم ان هناك أسباباً أخرى؟.
يستطيع المتابع لشؤون المجلس الوطني، ومن متابعة عابرة، ان يلمس ان قاعدة التوافق لم تكن مفعلة، وان المجلس، وخاصة رئيسه الدكتور غليون، قد وضعها على الرف، وهنا أتحداه ان يورد ولو قضية واحدة تأجل البت فيها بسبب الخلاف بين المكونات وعدم التوافق على الموقف منها، وتصرف من دون أي قواعد ناظمة، وبشكل فردي فج. فالسيد غليون، الذي قاد المجلس منذ تأسيسه، تصرف خارج قواعد العمل الجماعي المؤسساتي، في ابسط الامور واعقدها، على خلفية انه الرئيس وهو من يحدد السياسات والمواقف. يكفي ان نشير الى ان المكتب التنفيذي لم يجتمع طوال الفترة منذ تأسيسه إلا مرات لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، والأمانة العامة لم تجتمع إلا مرتين، لندرك طبيعة الازمة التي يعيشها المجلس. ففي كل الزيارات، واللقاءات الدبلوماسية مع المسؤولين العرب والاجانب، كان يختار الوفد الذي سيرافقه دون التشاور مع أي كان من المكتب التنفيذي، ولم يحصل ان قدم تقريرا عن نــتائج أي من لقاءاته التي حصلت طوال فترة رئاسته، كما لم يحصل ان حضر لأي من لقاءاته بوضع ملف يضم معلومات عن موقف الدولة التي سيزورها او سياسة حكومتها ازاء الملف السوري، وما يمكن طرحه على الطاولة، وما يمكن طلبه منها، كما لم يجر تقييما للزيارة او اللقاء ليعرف، هو والمجلس، ما الذي تحقق في اللقاء، وما الذي كان يجب قوله او عمله حتى يكون اللــقاء مثمرا. وحتى في ظهوره المتكرر على شاشات التلفزيون، كان الارتجـال سيد الموقف، من الحوادث المشهورة ان السيدة رايس، مندوبة الولايات المتحدة في الامم المتحدة سألته، والوفد المرافق له، خلال زيارة الامم المتحدة: ما هي خطتكم اذا استخدم الروس حق الفيتو ؟ فلم يكن لديه والوفد أي جواب.
لذا، فالقول ان قاعدة التوافق عطلت او بطأت تحرك المجلس فيه الكثير من التجني والافتئات، ومحاولة مكشوفة للتستر على اسباب الفشل الحقيقية وأولها الفردية والتفرد لخدمة غايات ذاتية بعيدة عن غايات المجلس والثورة والشعب.
ثم ما العيب في قاعدة التوافق ، خاصة اذا فهمت بشكل جيد، حيث ان الائتلافات تتشكل من احزاب وقوى متباينة في العقائد والاهداف، لذا فإنها تتفق في لحظة سياسية على قاسم مشترك يجمع بينها، وتفترض عملية المحافظة على الائتلاف التمسك بهذا القاسم المشترك كي لا تترك المجال لمكون او لفرد، كما فعل غليون في اتفاقه مع هيئة التنسيق الوطنية، بأخذ الائتلاف الى موقف مختلف او ضد المتفق عليه، ولا يتفق او يتسق مع هدفه ومبتغاه، لذا تستدعي الائتلافات اعتماد قاعدة التوافق الى ان تنجز الهدف المشترك فتعود احزابها الى برامجها الخاصة، وهذا يجعل الانتخابات والتصويت على القرارات في تعارض مع منطق الائتلافات السياسية. وعليه فان قاعدة التوافق التي كانت احدى القواعد التي تأسس المجلس الوطني على اساسها تستدعي تقليب الموضوع في المكتب التنفيذي او الامانة العامة في حوار جاد، والعمل على توحيد المواقف ازائه والاتفاق على الموقف الاقرب للهدف السياسي الذي دعا الى قيام الائتلاف. فالتوافق لا يمنح أي مكون حق الاعتراض وتعطيل القرار بدون مبرر معقول، بل ينظم العملية حتى لا يتم القفز الى القضايا والمواقف بشكل اعتباطي وغير منظم.
اما القول ان المجلس الوطني السوري يعاني من مشاكل بسبب الانقسام بين الاسلاميين والعلمانيين ففيه افتراء على صعيدين، الاول ان الدكتور غليون هو من روج وافتعل مقولة هيمنة الاسلاميين على المجلس الوطني قبيل اجتماع الهيئة العامة في تونس، ولف حوله مجموعة من الشباب العلماني لإبراز رفض القوى العلمانية في المجلس هذه الهيمنة، في حركة ابتزاز واضحة للإخوان المسلمين حتى يقبلوا بفكرة شرعنة التمديد له حيث كان المفترض ان تتم عملية تقعيد عمل المجلس في ذلك الاجتماع، وقد حقق مأربه بإضافة عبارة «التمديد لمرة واحدة» الى قاعدة التداول، ومن يومها اصبح تحالفه مع الاخوان المسلمين ركيزة قوته واستخدمه في تكريس تفرده في القرارات والتصرف بشؤون المجلس دون عودة الى مكتب او مؤسسة. اما الصعيد الثاني فان الدكتور غليون لم يستقل راغبا او تضحية، كما يقول، بل اضطر الى الاستقالة في ضوء رد الفعل على اعادة انتخابه في مناخات غير صحية، وفيها الكثير من التدبير والتحضير بليل، وعدم نجاحه في فترتيه السابقتين في تحقيق أي من مطالب الثورة والثوار.
مشكلة الدكتور غليون انه لم يستطع التكيف مع موقعه الجديد، وانه تعامل مع اعضاء المجلس والثوار بطريقة تعامل الاستاذ مع طلابه وتلاميذه، حيث القاعدة في هذه الحالة انه امام قصّر بحاجة لعلمه وخبرته، وبالتالي فهو موجههم ومعلمهم كي يكونوا اهلا لمستقـبل ينتظرهم، وقد تحدث مرات وقد كررها في أحاديثه الاخيرة حول المشكلة التي انفجرت بسبب اعادة انتخابه، انه الوحيد الذي يفهم، والوحيد الذي يعمل، وقال انه يقوم بكل شيء وحده لان البقية ليسوا قادرين على عمل شيء. يكفي ان نذكر واقعة كاشفة ففي لقاء لعدد من اعضاء المكتب التنفيذي ليلة نهاية العام ابلغ الدكتور غليون الحاضرين ان رسالة وجهها الى الشعب السوري ستذاع مساء ذلك اليوم عبر قناة «الجزيرة» وطلب منهم الاستماع اليها، وعندما احتج بعض الحضور بالقول: «كان يجب ان تطلعنا عليها قبل بثها»، رد الدكتور غليون باستخفاف: «نفذ ثم اعترض».
في الختام اتمنى للدكتور غليون حظا افــضل مع طلابـه في السوربون من دون ان اسأله ان كان يعاملهم كما عامل زملاءه في المكتب التنفيذي كقصّر يحتاجون لمن يأخذ بيدهم ام كطلاب واعين ويستحقون الاحترام والتشاور.
كاتب سوري
نقلا عن "السفير" اللبنانية