شكل العقد الثاني من القرن العشرين مرحلة "جَذعيّة" أو "تكوينيّة" طبعت مدارك وتفاعلات واتجاهات السوريين خلال العقود التالية. ومع ذلك فإن معارفنا عن تلك الفترة ما تزال محدودة نسبياً، إذ لم تنل إلا قدراً يسيراً من اهتمام الكتابة السياسية والتاريخية.
ولعل السمة الأبرز لتلك الفترة أنها "انتقالية" بكل المعاني الممكنة للكلمة، انظر مثلاً "الانتقال" من السيطرة التركية إلى "الحكم الوطني" ثم السيطرة الفرنسية، وانظر "التحولات" الدستورية والسياسية، ومدارك الناس حول الحياة السياسية والكيانية الدولتية والجغرافية والموقف من السيطرة الأجنبية (الخ) وهي أمور بالغة الأهمية وما تزال تكتسب راهنية نشطة، وتتطلب الكثير من التقصي والمتابعة والتحليل.
غير أننا نركز هنا على مسألة نرى أنها بالغة الأهمية، لاعتقادنا أنها تمثل نوعاً "الأنماط التكرارية" في الوعي والسلوك السياسي في حالات الأزمة، ويتعلق الأمر بالقابلية الداخلية أو الذاتية لدى شرائح من الطبقة السياسية (وحتى لدى العموم؟) لاعتبار أن المصلحة الوطنية لا تتمثل في مواجهة التحديات، والاستقلالية والكيانية المستقلة، الخ، وإنما في الانخراط النشط في سياسات الآخرين، بل و"إغوائهم" بالتدخل واستدعائهم للسيطرة، أو لنقل بمعنى آخر الارتماء في أحضان الخصم! وما نذكره هنا هو أحد أوجه أو مؤشرات هذه الفكرة التي نرى أنها تتطلب الكثير من التدقيق والاختبار.
لاحظ "عزت دروزة" و"رشيد رضا" و"يوسف الحكيم" و"حسن الأمين"، على اختلاف تحليلاتهم وتأويلاتهم للأمور في تلك الفترة من القرن العشرين، أن "الشريحة" التي كانت مستفيدة من الحكم التركي في سورية هي التي رحبت بالاحتلال الفرنسي، أو "تهيأت له"، بالأحرى "استدعته"، ومن ذلك مثلاً ما جرى من تأسيس "الحزب الوطني السوري" في (25-1-1919) الذي رأى "دروزة" أنه كان يعمل في الظاهر لاستقلال سورية ووحدتها، إلا أنه في الواقع كان يعمل من أجل أمور أخرى. وأما "رشيد رضا" فقد تحدث عن الحزب "المتهم بموالاة فرنسا، ... حتى أنه بلغ الحكومة أنهم عزموا على تأليف وفد فيه سبعة من حملة العمائم وسكنة الأثواب العباعب، يرسلونه إلى باريس بطلب الانتداب الفرنسي على جميع البلاد السورية". (رحلات رشيد رضا، ص 301).
ويذهب "حسن الأمين" في هذا المقام للقول بأن الحزب المذكور - ونحن نتحدث في الواقع عن جانب من الطبقة السياسية والاجتماعية والاقتصادية – عبَّر في حقيقة الأمر عن "مؤيدي فرنسا وصنائع الاستعمار وطلاب الانتداب". (حسن الأمين، مقالات في التاريخ، ص 345). ويتحدث "يوسف الحكيم" في مذكراته عن الأمر بما يُعَزِّزُ ما ذهب إليه حسن الأمين، يتحدث الحكيم عن أن تلك الجماعة [الحزب الوطني السوري] كانت على اتصال دائم بالكولونيل "كوس" ضابط الارتباط الفرنسي في دمشق، وأنهم كانوا يُفضِّلون الانتداب الفرنسي على الاستقلال التام الناجز. (مذكرات يوسف الحكيم، ص 87).
وهكذا نظر "حزب فرنسا" في سورية إلى معركة ميسلون، على أنها خروج على السياق، في ظل وجود تيار عريض نسبياً رَحَّبَ بفرنسا، ولكن ليس لزمن طويل، إذ تطورت الأمور خلاف الاستقطابات والمدارك والهويات الطارئة آنذاك.
هذا يُذَكِّر بما يجري اليوم في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين. هنا شكل من الاستمرارية في طريقة تعاطي البعض (ليسوا مجرد عدد) مع الأزمات والتحديات الفائقة، وهي – كما ذكرنا - واحدة من الأنماط التكرارية في الاستجابة المجتمعية للتحديات الوجودية الكبرى، عندما تميل شريحة (أو شرائح) ما بدافع من مداركها وطموحاتها وأحياناً مصالحها الجزئية لأن تفعل ما يبدو مُستغرباً ومَرفوضاً في الظروف الاعتيادية.