من الواضح أنّ هيمنة السلطة القائمة في سوريا قد شارفت على نهايتها. إنّها عاجزة عن الخروج من المأزق التي وضعت نفسها به، وأصبحت أجهزتها الأمنيّة المنهكة لا تقوى على وقف إرادة السوريين في الإطاحة بها. سترحل سلطة الأسد، بل هي رحلت عمليّاً عن الكثير من المناطق. ولكنّ المسألة الرئيسة اليوم هي أنّها وضعت شعب سوريا في مأزقٍ خطير، جعله مهدّداً في كينوناه وجوده من خلال شعار شبّيحتها أثناء قمعهم: "الأسد أو لا أحد!".
التحدّي الجوهريّ اليوم هو إذاً في الطريقة ذاتها التي سترحل فيها السلطة وفي مسار الأشهر التي ستلي هذا الرحيل.
على الصعيد الداخليّ، هناك توافق على هذا الرحيل. وحتّى أولئك الذين لم ينخرطوا كاملاً في الثورة، باتوا مقتنعين أنّ "النظام قد سقط"؛ إلاّ أنّهم متردّدون أحياناً ومتخوّفون ممّا سيأتي بعده من منطق الحرص على نموذج المجتمع السوري. السلطة عبثت بالوحدة الوطنيّة كي تبعد أمد رحيلها؛ وأجزاء من "المعارضة" وقعت في الفخّ الذي نصبته لها، وزُجّ بتيارات متطرّفة كانت غائبة عن المشهد السوري، بل دفعت قوى خارجيّة باسم مناصرة الثورة بمنطقٍ طائفيّ يخدم في الحقيقة سياساتها هي، وليس البلاد.
على الصعيد الدولي، هناك أيضاً توافق مماثل، وهو جوهر مهمّة كوفي عنان. وروسيا نفسها تتحدّث عن "حلٍّ يمنيّ"، ما يعني رحيل قمّة هرم السلطة. الاختلاف بين المواقف هو إذاً على طريقة هذا الرحيل. والملاحظ أنّ القوى الخارجيّة لم تكن مستعجلة عليه. من ناحية لأنّها أرادت أوّلاً أن تموضع نفسها ونفوذها في النظام القادم؛ ربّما عبر هذا الطيف أو ذاك من "المعارضة". وهذا لا يخصّ فقط المواجهة بين روسيا والصين وبين ما يسمّى "بأصدقاء سوريا"، بل أيضاً ما يجري من صراعات خفيّة ضمن هذه المجموعة الأخيرة. من ناحية أخرى، هناك حسابات بعض القوى الخارجيّة حول استنزاف ما هو مدنيّ وتعاضديّ في نسيج الشعب السوري، وكما في ليبيا إعادة إحياء الانتماءات التقليديّة من سباتها لتطغى على الروح الوطنيّة، كي يبقى البلد ضعيفاً لأمدٍ طويل، وكي تصبح هذه القوى هي الحكم بين أطيافه. وتصبّ التصريحات حول التدخّل الخارجيّ، والإعاقة التي تمّت لمبادرة الجامعة العربيّة، والتي تتمّ اليوم لمهمّة كوفي عنان، في مسار دفع السوريين نحو الإحباط واليأس والتطرّف. والأمر نفسه بالنسبة للعقوبات الدوليّة.
لكنّ ما جرى في "مجزرة الحولة"، وفي القرى المجاورة لها، شكّل صدمة حقيقيّة وربّما مفترق طرق في هذا السياق. لقد أيقظ ذلك الثائرين والمتردّدين على حدّ سواء، بل وقد يدفع الخراج لحسم خلافاته من أجل رحيلٍ سريع؟
يبقى الشعب السوري هو سيّد نفسه ومستقبله. ومن الواضح أنّ هناك تيّارات مختلفة تتجاذبه: أساسها سلميّ، وآخر تعسكر بالضرورة رفضاً لقتل أهله ودفاعاً عن شعبه، وثالث متطرّف إقصائيّ ومسلّح يريد أن يعبث بالحاضر والمستقبل. يأمل أوّل تيّارين التوصّل إلى حشد طاقات مختلف الأطياف لإحداث استعصاء يأتي بحلٍّ سياسيّ، تحت غطاء مبادرة عنان كبوتقة دوليّة، ويؤدّي بالنتيجة إلى رحيل السلطة مع الحفاظ على المجتمع والدولة. أمّا الثالث فيستغلّ المشاعر ويدفع إلى الانتقام من أطيافٍ بعينها، مشعلاً حرباً أهليّة، راغباً في تأسيس مجتمع غير المجتمع، ودولة غير الدولة.
يدور جوهر هذه التجاذبات حول طبيعة الثورة السورية وأهدافها: أهي من أجل دولة المساواة في المواطنة والحريّات، أم هي تعبيراً عن صراع سنيّ-شيعيّ أو سنيّ-علويّ، أو من أجل أن "تعود الأغلبيّة للحكم" كما يقولون؟ وهنا يقع العبء كبيراً على التيّارين الأوّلين لضبط نضالهما وتنظيم صفوفهما، حتّى في ظلّ كلّ ما يتعرّضان إليه من قمعٍ من النظام الآفل، كي يحفظا لبنة المجتمع ومؤسّسات الدولة. والمسؤوليّة أكبر على مؤسّسات الدولة، بما فيها الجيش النظامي، في التوقّف عن المسار الذي زجّته فيه السلطة، والتلاقي مع إرادة الشعب الثائر. كما أنّ العبء ثقيل على كلّ من حيّدتهم السلطة في هذا الصراع كي يؤكّدوا على وحدة المسار والمصير. أي أن يعمل جميع هؤلاء اليوم ليس فقط بدلالة الصراع مع السلطة، بل خاصّة بدلالة ما سيأتي بعدها.
طريقة رحيل النظام ستحدّد معالم سوريا المستقبل، وهذا يرتبط باستراتيجّيات العمل في المرحلة المقبلة. هل ستعطى الأولويّة للتحرّك السلميّ، خاصّة في دمشق وحلب، أم للهجمات المسلّحة؟ وهل سيجرؤ قادة الاحتجاج على ابتكار مواقف آنيّة لتفادي الانزلاق نحو "الاقتتال الطائفيّ" كما يدفع إليه البعض: كأن يتمّ إقرار أسبوع دون تظاهرات وهجمات، بالتوافق مع المراقبين، لإثبات أنّ الثورة سيّدة الأمور وكدلالة أنّ ما بعد الرحيل ليس فوضى عارمة. فالصمت أحياناً أكثر دويّاً من الصراخ، مهما كان الألم.
كذلك هل ستفرض الثورة على المعارضة السياسيّة أن تتوقّف عن خطابات الإقصاء المتبادل، لتثبت على أنّها قادرة على التعايش بعد الرحيل؟ ليس فقط لوضع أسس عهدٍ وطنيّ جامع، ولطريقة إدارة المرحلة الانتقالية، بل وهذا أهمّ وأكثر رمزيّة اليوم: لوضع أسس المصالحة الوطنيّة الشاملة والمحاسبة العادلة لمرتكبي الجرائم، مع ما يتضمّن ذلك من تصالحٍ بين الجيش الحرّ والجيش النظاميّ لحلّ كلّ حالات الاحتقان من خلال النظر إلى المستقبل وليس الماضي. ولو اضطرّ الأمر أن يرتفع علمان سوريّان جنباً إلى جنب إلى حين يختار السوريّون جميعاً علماً موحّداً جديداً.
الوفاء لأهداف الثورة وتضحيات أبطالها ليس أن يتبع رحيل السلطة حملات انتقاميّة وتصفية حسابات. بل أن ينتصر المجتمع والدولة التي أسّسها جيل الأجداد، رغماً عن أنف المحتلّ، من أجل "شعبٍ واحد ودولة واحدة".
"لوموند ديبلوماتيك"