- شكّل التفجير الذي أودى بحياة أعضاء الخليّة الأمنية ( باستثناء وزير الداخلية ) نقطة تحوّل هامّة في نهج النظام المستبدّ في كيفيّة تعامله مع المجموعات المسلّحة بمختلف تسمياتها وانتماءاتها ، لأنّه وضع القرارات الأمنية كلّها تحت رحمة التيّار المتشدّد في النظام ، وخلق المبرّرات والدوافع للحلّ الأمني - العسكري لأنْ يأخذ مداه بحدوده القصوى دون تردّد أو خوف من انعكاسات نتائجه داخليّاً ودوليّاً ، لأنَّ معركة حياة أو موت ارتسمت في أذهان أصحاب القرار ، وخاصّة عندما اقترن بالهجوم الواسع الذي شنّه ( الجيش السوري الحر ّ ) على أحياء دمشق ومحيطها في منتصف شهر تمّوز / يوليو / الماضي ( زلزال دمشق ) ، وبتراجع واشنطن عن اتفاق جنيف ... وبذلك دخل العنف مرحلة خطيرة من التصعيد تجاوزت كل المحظورات والمحرّمات المعروفة ...
- وفي هذا السياق التصعيدي جاءت معركة حلب بعد وقوف جماهيرها على الحياد لفترة طويلة، وبعد أنْ استطاع ( الجيش السوري الحر ) ، وغيره من المجموعات المسلّحة المحلية والوافدة التمدمد في ريفيّ حلب وإدلب ، واللذين يتواجد فيهما فائض من المسلّحين المزوّدين بما يكفي من الأسلحة والذخائر ووسائط الاتصال الأمريكية والبريطانية الحديثة ، وكان من الطبيعي أنْ تتوسّع دوائر ذلك الفائض بكل تصنيفاته باتجاه مدينة حلب نظراً لأهميتها الإقتصادية والسياسية والجغرافية والبشرية ، والتي يمكن أن تشكّل ( بنغازي ) سورية في حال نجاح المسلّحين في السيطرة عليها ، والتمسّك بها ، وهذا يؤدّي في حال تحقيقه الى تسريع وتيرة الحسم الاستراتيجي مع النظام السوري ....
وهكذا ، وفي ظلّ هذه الأجواء دخل مسلّحو ريفيّ حلب وإدلب مدينة حلب بالآلاف ، وهم ينتمون إلى تنظيمات عديدة ومختلفة، والتحقت بهم العناصر المسلّحة المتواجدة فيها ، والخلايا النائمة التابعة للمجموعات المسلّحة داخلها ، وقد استطاعوا خلال فترة قصيرة أنْ ينتشروا بسهولة وسرعة في العديد من أحيائها ، ويسيطروا على الكثير من مخافر شرطتها ، والمراكز الحكومية ، والمنشآت العامّة دون مقاومة تُذكَر ، ودون حماس من معظم أبناء حلب الذين كانوا يرغبون بإبقاء مدينتهم بعيدة عن التدمير على غرار ماجرى في حمص ...
لقد خلق هذا التطور الجديد إرباكاً أمنيّاً وسياسيّاً ومعنويّاً لقادة النظام ممّا أعطى فسحة من الوقت لبعض المجموعات المسلحة للتعاطي مع بعض سكان المدينة بروح الثأر والانتقام ( آل برّي نموذجاً ) ، وبأساليب همجية غريبة عن أخلاق وعادات أهالي حلب والانتفاضة خاصة ، والشعب السوري عامّة ، وبذرائع مختلفة يعجز مواطن راشد عاقل عن تبريرها ، ممّا ترك انعكاسات سلبيّة للغاية داخل المدينة وخارجها ، وعلى الصعيدين العربي والدولي ، ومنظمات حقوق الإنسان في أرجاء العالم.
كان ردّ فعل النظام بطيئاً ، وربّما كان مقصوداً ليعطي المجموعات المسلّحة وقتاً أطول حتى تمارس أخطاءها ، وربّما خطاياها أيضاً ، ويذوق أبناء حلب الشهباء طعمها المرّ ما ينسيها جرائمه المرعبة ، وهذا الأسلوب جُرّب في ساحات أخرى من الوطن العربي لكشف سلبيات المتطرّفين من أجل دفع الجماهير لرفض ممارساتهم ، والابتعاد عنهم ، ونبذهم ، وفسح المجال لتعاون المواطنين مع أدوات قمع النظام ضدّهم مستقبلاً ... ومن أسباب تباطؤ النظام رغبته تجنّب اتخاذ قرارات عسكرية متسرّعة قد ينجم عنها أخطاء قاتلة تؤدّي الى انشقاق عسكري حقيقي متمثّل بخروج وحدات وقطعات عسكرية بكامل عتادها عن طاعته ، والإنضمام الى ( الجيش السوري الحرّ ) ، ممّا يسرّع في سقوطه ... ولذلك تمّ اختيار مجموعة قتالية مؤلّفة من قطعات مدرعة ووحدات خاصّة مضمونة الولاء للقيام بالتنفيذ الدقيق للعملية المعقّدة والشائكة قوامها عشرون ألفاً ، لأنّ قتال المدن يُعتبَر من أصعب أنواع القتال ، وخاصّة بالنسبة للدبّابات ...
ويبدو أنّ الخطة المرسومة والجاري تنفيذها تقوم على أساس قضم وتطهير الأحياء شارعاً شارعاً ، و عمارة عمارة دون تسرّع ، وبالتنسيق مع أجهزة الأمن ومخبريها ، والاستطلاع الجوي ، والمدنيين المتعاطفين مع السلطات ، لمعرفة أماكن تمركز المسلّحين وتحرّكاتهم ، وفي الوقت نفسه يتمّ الضغط العسكري على أماكن تواجدهم في الأرياف ، وطرق إمدادهم وتموينهم مع الحدود التركية .
وبالمقابل ، فإنّ أطرافاً غربية عديدة قدّمت للمسلّحين وسائط اتصال حديثة ومعلومات مهمّة ملتقطة عبر الأقمار الصناعية لتحرّك وتمركز القوات السورية ، وطرق الإمداد المأمونة مع الحدود التركية ، هذا إضافة الى الأسلحة والمعدّات التي موّلت كلّ من السعودية وقطر شراءها، كما سهّلت لهم تجنيد وحشد وتمويل عناصر مسلّحة متطرفة لدعمهم من أقطار عربية وإسلامية على وجه الخصوص .
وعلى كلّ حال ، فإنّ عملية كسر العظم في حلب ابتدأت منذ أيام وقد تستمر وقتاً ليس بقصير ، وستترك بصماتها على مجرى التطوّرات القادمة وفقاً لأحد الاحتمالات التالية (حسب تقديرنا ):
ا : أن يستطيع المسلّحون التمسّك بتواجدهم في حلب لأمد طويل ، مع تناوب عمليّات الكرّ والفرّ داخل مناطقها وأحيائها ، وخلال ذلك قد تُخلَق الظروف الملائمة لوصول إمدادات ودعم بالرجال والسلاح والعتاد عبر تركيا لتعزيز سيطرتهم على الأحياء المتواجدين فيها ، وتكبيد الجيش السوري خسائر كبيرة ، وقد تعرّضه لانشقاقات مؤثّرة سواء بالنسبة للقوات المشتبكة مع المسلّحين أم غيرها ، ممّا يترك انعكاسات هامّة على الوضع العام برمّته ، ويشجّع على تصعيد الانشقاقات السياسية والأمنية والدبلوماسية التي تؤثّر على سمعة النظام ومعنوياته وهيبته ، وتماسكه ، وبالتالي تسرّع في سقوطه .
وفي حال عدم توفّر الدعم الكافي للمجموعات المسلّحة ، أو نجاح الجيش السوري في منع وصولها ستسير الأمور باتجاه تحجيم آثار وانعكاسات معركة حلب على النظام ، ولكن هذا الاحتمال قد يستغرق وقتاً طويلاً يتم فيه استنزاف قدرات النظام ، وفي الوقت نفسه تدمير حلب على غرار ماجرىفي حمص مع الأسف ...
ب : دمج معركة حلب مع معركة إنشاء منطقة عازلة وحظر جوي على مقربة من الحدود التركية ، وفي هذا السياق سيستثمر التحالف الأمريكي - الأوربي - التركي وأتباعهم معركة حلب من أجل تزويد ( الجيش السوري الحرّ ) بأسلحة نوعيّة متقدّمة مثل صواريخ مضادّة للطائرات ، وأخرى مضادّة للدبّابات ، وربّما بعض الدبابات ( هنالك معلومات صحفية غير مؤكّدة بوصول ٢٠ دبابة من طراز تي : ٦٢ الروسية إلى ميناء اسكندرونالمشتراة من ليبيا بتمويل قطري ) . ...
أمّا بالنسبة لمسألة الحظر الجوي فحسب تقديرينا لن يتكرّر النموذج الليبي في سورية ، لتعذّر الغطاء اللازم من مجلس الأمن ، ولوجود شبكة من وسائل الدفاع الجوي للجيش السوري قادرة على إلحاق خسائر مهمة في طيران الناتو المرشّح لتنفيذ الحظر ، وما من دولة من دوله مستعدّة للتضحية بأرواح طياريها فوق الأرض السورية ، وكان تصريح رئيس الأركان القوات المشتركة الأمريكية واضحاً لا لبس فيه ولا غموض بأنّه يعارض الحظر الجوي نظراً لانعكاساته السلبية على قواته في الخليج .....، ولعدم وجود نوايا حقيقية من الإدارة الأمريكية بالحسم السريع مع النظام السوري ....
ولكن قد يتمّ الحظر الجوّي بنموذج جديد يرتكز على إمكانيّة فرضه من الأرض استناداً الى خطّة تتكامل فيها شبكة النيران والصواريخ التركية من خارج الحدود السورية مع شبكة نيران وصواريخ المنطقة العازلة داخل الأراضي السورية التي يجري الحديث عن احتمال فرضها، وقد انتشرت معلومات صحفية تقول بأنّ أمريكا ستوافق على تزويد ( الجيش السوري الحر ) بصواريخ ستينغر، وهذا النوع صالح للتعامل بكفاءة مع الأهداف الجوية ذات الارتفاع المنخفض ، بينما تتعامل وسائط الدفاع الجوّي التركية مع الأهداف المتوسطة والعالية ، وبذلك يتم تأمين حظر جوي ذاتي من الأرض دون الحاجة لتدخّل طيران الناتو .... غير أنّ تهديد النظام السوري بتزويد بعض الفصائل الكردية المتواجدة في الشريط الحدودي بصواريخ سام قد يجعل الأتراك يفكرون جيّداً وطويلاً قبل الموافقة على السيناريو السابق ... وعلى كلّ حال ، إذا نُفّذَت فكرة المنطقة العازلة والحظر الجويّ سيكون ذلك نقلة نوعيّةخطيرةفي مجال التصعيد ، لأنّها ستؤمّن منطقة ( آمنة ) تشكّل قاعدة انطلاق لحشد قوات إضافية من المتطوعين العرب والأجانب وبتمويل خليجي وموافقة أمريكية لدعم ( الجيش السوري الحر ) ، والانتقال الى حرب كلاسيكية مع الأنساق الأولى للجيش السوري ، وفي حال قيام ذلك ، لا يُستبعَد أقلمة الصراع عسكريّاً (وقد تبلّغت الحكومة التركية موقفاً واضحاً وصريحاً بهذا الخصوص من قبل الإيرانيين ، كما وقّعت إيران مؤخّراًاتفاقية الدفاع المشترك مع النظام السوري ) ، وربّما تدويله ممّا يترك انعكاسات خطيرة على السلم العالمي برمّته ....
ج - أنْ يتمكّن الجيش السوري من إعادة بسط سيطرته على حلب ، وتبريد الأوضاع الأمنيّة فيها على غرار ما جرى في دمشق مع بقاء عمليات محدودة من قبل ( الجيش السوري الحر ) والمجموعات المسلّحة الأخرى ،
واقتصارها على أعمال التفجير المتفرّقة والاغتيالات الفردية ، وبقاء أوردغان بديماغوجيته المعهودة ووزير خارجيته يردّدان عبارات التهديد والوعيد المخدّرة ، والمسؤولين الأمريكيين غارقين بتصريحات متناقضة لإخفاء نواياهم الحقيقية ...
وفي حال تحقّق هذه الحالة الافتراضية من المحتمل فتح الباب لإمكانيّة إجراء حلّ سلمي للاستعصاء الراهن في سورية ، وضمن هذا السياق والتوجّه يبدو أنّ حلفاء النظام السوري ( روسيا - الصين - إيران ) قد ابتدؤوا بتكثيف جهودهم السياسية في هذا الاتجاه مع استمرار الضغط الروسي الواضح على الدول الغربية للعودة الى اتفاق جنيف الذي ارتكز على مقترحات كوفي عنان ...، وبدعم مهمة الإبراهيمي بانتظار ما يمكن أنْ يضيفه من أفكار على ذلك الاتفاق ، وما يستطيع فعله لتدوير الزوايا بين أطراف الصراع ، وإيجاد الأرضية المناسبة لتسوية قابلة للحياة ...ولكنّ نجاح مهمّته تتوقّف على إيجاد الطرق والسبل الكفيلة بتوقيف العنف من الطرفين ، وضمان موقف أمريكي صادق وجدّي داعم له ، وهذا حسب تقديرنا لن تتضح معالمه قبل الانتخابات الأمريكية في تشرين الثاني / نوفمبر / القادم على الرغم من المدلول السياسي لتصريح رئيس الأركان الأمريكي حول الموضوع ، وبالتالي سيقتصر نشاط الإبراهيمي حتى ذلك التاريخ على الاستطلاع المباشر للمواقف ، والمساهمة في تعبئة الوقت وإدارة الأزمة .والسعي لتخفيف الدمار والخراب ، ورفع وتيرة إغاثة الشعب السوري المنكوب ...
وأخيراً ، نستطيع القول : كيفما كانت نتيجة معركة حلب وغيرها ، فإنّ العدّ التنازلي لرحيل النظام قد بدأ منذ اليوم الأوّل للانتفاضة ، ولا مستقبل له بعد كلّ ما جرى ويجري ، ولكنّ المسألة التي تستحقّ حشد هجهود كلّ الوطنيين السوريين هي كيف نضمن رحيله وإنجاز التغيير الديمقراطي الجذري الشامل مع المحافظة على وحدة سورية أرضاً وشعباً ، وحمايتها من التدمير والتخريب ... ، ومن هنا تأتي أهميّة خيار المرحلة الانتقالية المضمونة دوليّاً ، والتي أشرنا إليها مراراً في السابق.