في عُرف التقسيمات المجتمعية سنجد في بلدان العالم المتقدم والنامية، وفي سوريا أيضاً، أن هناك مدناً صنفت بأنها نامية، وتحديداً ثلاثي المنطقة الشرقية: الرقة والحسكة ودير الزور، وبالتالي يبدو من البديهي أن يكون حجم التنمية فيها أقل من باقي المدن السورية، وان تعيش نوعاً من العزلة، كما الغرق في تفاصيل الحياة العشائرية، وحمى الفساد والمحسوبيات، وهي من دون شك عوامل فاقمت الاحتقان الشعبي، لينفجر مع موجة الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد.
وإذا كانت دير الزور لحقت بركب المدن المنتفضة بسرعة، فيما عاشت الحسكة، بمعظم مناطقها، طلاقاً مع الواقع السياسي، فإن حراك الرقة جاء متأخراً، بالرغم من أن أزمة الجفاف التي عصفت بالقطاع الزراعي أصابتها، وبرغم عدوى التهميش التي أصابتها كغيرها من المدن السورية. لكن المتتبع للتظاهرات والاحتجاجات الشعبية لن يذكر الرقة، وستبقى في الركن الهادئ البعيد، ليكافئها النظام بملتقيات للعشائر من جهة، ودعم إعلامي من جهة أخرى، وليتوّج هذا الغزل بزيارة قام بها الرئيس بشار الأسد للمنطقة في عيد الأضحى الماضي.
لكنّ شيئاً ما قد حدث وقلب الطاولة لمصلحة المتظاهرين، لتنضم مدينة الرشيد إلى باقي المدن، وإنما على هواها هي، فتنتفض متى تريد وتهدأ متى تريد.
وعلى عكس الطريق الصحراوي المملّ الذي يربط دير الزور بدمشق، يبدو الطريق إلى الرقة ساحراً، مع تناغم الألوان الفريد بين زرقة الفرات والبساتين الخضراء على جانبيه وسنابل القمح. مشهد جميل سيقطعه حديث السائق: من حسن حظكم أنكم لم تروا العجاج، وعندها ستغيّرون رأيكم كلياً في المنطقة. نستفسر عن المعنى فيجيب أنه عواصف رملية، غالباً ما تأتي من البادية السورية، فتعكر صفو السماء لتبدو اقرب إلى اللون الأحمر وتتسبب بقطع الطرق الكبرى أحياناً.
نكمل طريقنا إلى أن نصل إلى مدخل الرقة، وهناك نستعدّ لإبراز بطاقتنا الشخصية مع اقترابنا من الحاجز الأمني، لكن الرجل الواقف مع سلاحه سيكسر القاعدة ولن يطلب حتى التوقف بل يكتفي بإشارة من يده للمضي قدماً.
الحياة في المدينة تبدو عادية في الصباح، فالكل يذهب إلى أعماله ومدارسه وأسواقه، فيما يبقى ليوم الجمعة شأن آخر. لكن التناقضات سمة سنلاحظها كثيراً في مدينة الرشيد، مع الإهمال الكبير في العديد من الشوارع والساحات، والمناطق السكنية العشوائية، في مقابل بذخ لا يوصف في بناء المقار الحكومية، وأهمها بالطبع دار الحكومة.
ويبدو منظر السور الأثري الذي يحيط بالمدينة مثيراً للحزن مع هستيريا الكتابات عليه، ومع هدم جزء آخر منه بسبب توسُّع المدينة. باختصار تبدو الرقة منسيّة، حيث تهتم السلطة فقط بمنشآتها والباقي لا شأن لها به. ولعلّ حالة إهمال الرقة سبب للخوف الشديد من أي وافد على المدينة، وهو ما قد ينقلب إلى مقاطعة، حين يحاول هذا الوافد، الذي ستكشفه لهجته الغريبة، البحث في شؤون بلادهم. لكن الثقة تحصل مع عدد من الناشطين والجامعيين الذين يقتنعون أخيراً في فتح أسرار الرقة. وتحدث اللقاءات جهاراً في شوارع المدينة وضمن جولة ترحيبية، كما يصفونها، حيث يتأثر أبناء الرقة بجيرانهم في العراق التي لا تبعد حدودها عنهم أكثر من ساعتين، فتسيطر اللهجة الفراتية الأقرب إلى العراقية، كما يبدو نمط الحياة متشابهاً إلى حد كبير.
الرقة وحكاية الإهمال
يمكن القول إن الرقة كانت بؤرة للفساد، بحسب قول أحد الناشطين، بسبب بعدها عن المركز السياسي، بل إن نهب الموارد كان يتم بسهولة على عكس باقي المدن، وأحياناً بعلم مسؤولين رفيعي المستوى. وزاد في الأمر عدم تطبيق المشروعات الزراعية التي توضع ميزانيتها المقدرة بمئات الملايين في الجيوب، لتستفيد منها بعض الأسر والعشائر الثرية أو الإقطاعية، كما هي الحال مع مشروع استصلاح الأراضي الواقعة بين الجسرين، لتأتي أزمة الجفاف، التي تضرب المنطقة منذ العام 2003، لتزيد الوضع سوءاً، ويهاجر بسببها عشرات الآلاف إلى دمشق وحلب ودرعا.
وكان الشأن الزراعي آخر ما يمكن أن تفكر به الحكومة في عهد نائب رئيسها للشؤون الاقتصادية عبد الله الدردري، وحكم على مساحات هائلة من الأراضي ألا تعود إلى الحياة مجدداً، إلا مع عودة الأمطار الغزيرة واقتناع الحكومة أيضاً أن هؤلاء الفلاحين يزرعون القمح لا الذهب.
ويضرب لنا الناشط مثلاً على ذلك، مع قرار الحكومة في العام 2008 رفع الدعم عن المازوت، وما جره من غلاء الكهرباء، إذ تضاعفت التكاليف المتعلقة بالريّ وضخ المياه من 60 دولاراً لدونم مزروع بالقمح إلى 200 دولار للمساحة ذاتها. والأسوأ أن الغلاء حصل قبل فترة بسيطة من بدء موسم الحصاد، وترافق هذا مع خسارة كبيرة في الثروة الحيوانية التي تعد مورداً اقتصادياً مهماً أيضا مع ارتفاع سعر الأعلاف والاضطرار إلى تسديد الفوائد الكبيرة عن القروض التي حصل الفلاحون عليها من المصرف الزراعي، ما فاقم من الأزمة.
ولم تفلح جهود الأمم المتحدة والحكومة لاحقاً في الحد من هذه الأزمة التي صمت عنها الإعلام الرسمي وما يزال، مصراً على تفوق الإنتاج الزراعي. ولم تكلف الحكومة نفسها عناء تجديد شبكات الري، التي تعود إلى سبعينيات القرن الماضي، أو دعم هؤلاء النازحين، بل بقيت الرقة في حضرة النسيان وغياب الاهتمام الرسمي، رغم أنها تقدّم اقتصادياً للبلاد ما تعجز عن تقديمه دمشق، بحسب قول محاورنا. كل هذه العوامل إذاً تبدو كفيلة بالغضب على دولة أهملت سكان هذه المنطقة، ولكن ما الذي حصل في الرقة منذ بداية الاحتجاجات؟
ويقول ناشط إن «الرقة لم تتغيّب عن سجل المدن المنتفضة، حيث خرجت تظاهرات منذ الأيام الأولى للحراك، وتزايدت مع بداية آب الماضي ليشتدّ القمع وتعمّ الاعتقالات صفوف شباب الرقة، ما أصاب الكثير من الأهالي باليأس فعادت الحياة كما كانت، وكأن شيئاً لم يكن. أضف إلى ذلك تعمّد وسائل الإعلام الداعمة للثورة نسيان الرقة، فاستغلّ إعلام النظام الأمر، وبدأت تقام الاحتفالات ومسيرات التأييد، وأصرّ على إظهار من يقول أنهم وجهاء محافظة الرقة، وترافق ذلك مع هدوء نسبي شهدته المدينة ما جعل النظام يزيد من تغزّله بها ويكافئها بزيارة رئيس الدولة في أول أيام عيد الأضحى في تشرين الثاني (الماضي)، وسط إجراءات أمنية وعسكرية شديدة جداً، ومع حشود لمسيرات مرحبة به».
ويضيف محاورنا «عقد الرئيس يومها لقاءات مع العديد من الشخصيات العشائرية، وهو أمر أثار استياء الكثيرين»، معتبراً أنه «بعد أن بدأت تتلاشى النزعة القبلية ها هو النظام يعيد إحياءها من جديد، وتبعها بعشرات الملتقيات للعشائر، وهو الذي لطالما تحدث بمنطق الدولة المدنية. هذا الأمر استمر لفترة طويلة إلى أن قررت التنسيقيات إطلاق شرارة الاحتجاجات من جديد، فخرج أبناء الرقة بإعداد كبيرة هذه المرة، ونجحوا في لفت أنظار العالم إلى المدينة الصغيرة الواقعة في الشرق. وكما هي العادة يسقط الشهداء في التظاهرات، فيخرج الناس للتشييع ليسقط غيرهم وتستمر الحكاية، ثم تهدأ التظاهرات لتعود من جديد على هوى أبناء مدينة الروائي السوري عبد السلام العجيلي».
الورقة العشائرية: من سيكسبها؟
يبدو البحث في عشائر «الجزيرة السورية» أمراً لافتاً، وهي التي شكلت تاريخياً خزاناً بشرياً ضخماً قلب الكثير من الموازين، وبرزت منهم شخصيات كثيرة، تمتد من الموصل إلى حلب وريف حمص وحماه وصولاً إلى درعا والأردن، ولبعضهم صلات بعشائر أخرى في الجزيرة العربية. هذه القوة جعلت النظام منذ بداية حكمه في السبعينيات يوطد علاقته بهم، ويعطيهم الصلاحية في إدارة المنطقة، ما داموا تحت سقفه.
وبالفعل تحكمت القبلية آنذاك بالمنطقة، ولازال الكثير من أبناء الجزيرة يتمسكون بعادات قبلية كالثأر والتعصب واستخدام السلاح لحل الخلافات، لكن المسألة أخذت في التبدل مع الجيل الشاب الذي درس في دمشق وحلب وخارج سوريا ثم عاد إلى الداخل بمفاهيم المدنية والعصرنة، ما دفع بكثير من الأجواء القبلية إلى الماضي.
لكن آراء أهل الرقة تبدو متباينة بين رحيل العشائرية واندثارها وبين من لا يزال يراهن عليها، إذ يرى أحد الناشطين أن العشائر أضعف من أن تتحرك، وشيوخها لم يعد لهم سوى الاسم واللقب لا أكثر، وهؤلاء لا وزن لهم إلا وسط الدائرة الضيقة حولهم. ويعتبر أنه «لو كانت الحقيقة عكس ذلك لانتفضت هذه العشائر ثأراً لأبنائها المعتقلين، أو حتى أحد أبرز شيوخها كالشيخ نواف البشير، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل، بل دخل الجيش المدن والقرى وخرج، ولم يحدث شيء، وهذا دليل على أنها اندثرت، فيما النظام يحاول إحياء بعض مظاهرها بعقد اجتماعات مع الشيوخ، وإعطائهم الامتيازات المختلفة».
وهو رأي يقابله كلام آخر من ناشط ثانٍ يعتقد أن العشائر، وإن مضت في الحضارة والمدنية، لكنها لا تزال تحتفظ بسمات البداوة، و«يمكنها العودة إلى زمن العصبية القبلية بسهولة، وهو ما جعل المعارضة تسمّي إحدى الجمع «بجمعة العشائر»، وتصر بين الحين والآخر على استنهاض الهمم للانقلاب على النظام، وهي في الواقع منقسمة بين موالٍ، ضمن تحالف سلطوي اقتصادي، وأخرى معارضة ذاقت الويل مسبقاً. وفي كل الأحوال فإن من يلعب على ورقة العشائر من المعارضة يراهن على دورها في التسليح، رغم أن السلاح وضع في يد شيوخ العشائر فقط لإيقاف حروب الثأر التي كانت تدور بينهم، باعتبار أن شيخ العشيرة هو رجل ذو حكمة وعقل راجح وهو أيضاً كان بطلب من النظام. أما الرهان الثاني فيتجسد في «الفزعة» أي نجدة القبائل لبعضها البعض، وسط النزاع المسلح، لكني لا أعوّل على الأمر كثيراً، لأن لا مصلحة للعشائر في الدخول في حرب أهلية في ما بينها من جهة ومع النظام من جهة أخرى، خصوصاً أن غالبية السلاح المنتشر عبارة عن بنادق حربية، لا يمكن أن تجابه الدبابات والمدافع التي في حوزة الجيش النظامي»
نقلا عن "السفير"
----
موضوعات مرتبطة:
الــــرقّــــة: العشائر تحسم الموقف