بين محافظات سوريا الأربع عشرة، اختارت طرطوس البقاء في ركنها الهادئ البعيد، فاحتفظت بطابعها اليومي، وبقيت غائبة عن مشهد الاحتجاجات الشعبية والمسلحة، وحاضرة في الوقت ذاته في مشهد التأييد للسلطة.
المحافظة الصغيرة الخالية من الأمّية لها رؤيتها للحدث السوري، بين موال بشكل قطعي للنظام، وموال نسبي وآخر يرفض العروبة ويحتفي بالقومية السورية، وفي النتيجة يتفق أهل البحر على عبارة واحدة: نحن نحب الحياة.
تستيقظ طرطوس يومياً على أصوات فيروز والرحابنة، ويصحو البحر معها في مشهد يومي تبدأ معه الحياة تدريجاً على شواطئ المدينة. لا وجود للإضراب أو التظاهرات، ولا تشييع، لأنه بالأصل لم يسقط احد بالرصاص، بل إنّ معظم السكان لم يسمعوا صوت الرصاص، أو بعضهم قد خيّل له أنّه قد سمعه. ففي نسيان الماضي انتشرت الشائعات عن سيارات تقل مسلحين يطلقون الرصاص في بعض أحياء المدينة، فلاحق الكثير من شباب المدينة والضواحي القريبة سيارات لم يرها أحد، وسرت في الشارع في تلك الأيام أحاديث عن أحداث لم يُعرف إن حصلت أم لا.
وبدا واضحا وقتها أنّ هناك من يريد إشعال فتنة طائفية بين أبناء حارات المدينة، إلا أنّ أهالي المحافظة، الذين يعرفون بمستوى جيّد من التعليم، بادروا إلى اتخاذ إجراءات احتياطية، فخلت الشوارع آنذاك ليلا من المارة والسيارات، إلا ما ندر، ونشر الناس على واجهات المحلات وصفحات الانترنت أرقاماً لسيارات كانت قد سرقت آنذاك في اللاذقية، التي كانت تشهد في بعض أحيائها ومناطقها اضطرابات، بعضها ذو طابع شعبي، وآخر ذو طابع مسلح.
وتعزز الخوف في المدينة مع وصول أعداد كبيرة من أهالي محافظة إدلب وحمص الهاربين من الأحداث هناك، والذين يتحدثون عن جرائم فظيعة يرتكبها المسلحون هناك. أيضا نظر المواطنون هنا بقلق ورعب إلى الفرز الطائفي الذي حصل في المحافظات المجاورة كاللاذقية وحمص، واستطاعوا بنجاح أن يتخطوا هذا الأمر، فلم تحصل أي مقاطعة اقتصادية بين الطوائف المكونة لنسيج المدينة، بعكس ما حصل في بعض المدن المجاورة.
وهكذا استمر أبناء طرطوس بترقب ما يحدث في بعض المحافظات الأخرى بقلق بالغ، وبالأخص أنّ هناك قناعة تامة للأهالي بأنّ ثمة ما يحاك ضد مدينتهم، فمحاولات تهريب الأسلحة عن طريق البحر أو البرّ، والقبض على بعض العناصر المطلوبين من الأجهزة الأمنية، لم تتوقف منذ بداية الأحداث في البلاد. وبالرغم من أنه لم تحصل أي حادثة تكدّر الأجواء الهادئة في طرطوس، إلا أنّ الحواجز تقسم المدينة الصغيرة، وتغلق الكثير من شوارعها، وتتم مراقبة مداخل المدينة بعناية، ويتم تفتيش كل من يدخل المدينة عبر مداخلها الأربعة، وسط حذر أمني بالغ من السلطات والسكان. فالشيخ العرعور توعد أهالي طرطوس، عبر قناة «صفا» الفضائية، بـ«عرس مرتب يليق بهم». وعاد وكرر تهديده بأنّه سيُبكي الأمهات فيها، وغيرها من التهديدات التي ساهمت في رفع حالة التأهب المعنوي والأمني كما يروي الكثير من أهل البحر، ما دفع الكثير إلى التبليغ عن سيارات مشبوهة أو أشخاص غرباء.
ولا يخفى على زائر هذه المدينة العلاقات المتينة المبنية على الثقة بين المواطنين وعناصر قوى الأمن، حيث يتم تبادل عبارات التحية بشكل دائم بين المواطنين وقوى الأمن، مع انتظام الوقوف والتفتيش على الحواجز. والعبارات التي تحيي الجيش والرئيس بشار الأسد لا تفارق جدران المدينة الهادئة، فيما أعلام الوطن و«حزب الله» وروسيا والصين تنتشر بكثافة في الساحات، مع عبارات «شكراً روسيا» باللغتين العربية والروسية.
هنا يكنّ الأهالي تقديرا شديدا لروسيا «الشقيقة» كما يسمونها، فقد نصرتهم أكثر من «العربان» كما يصفهم الناس، وأبعد من ذلك حين يسمون وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف «بالرفيق لافروف». أما ذروة الاحتفاء بالدب الروسي فتتمثل بنكتة يتم تداولها، تقول ان الرئيس فلاديمير بوتين من أصل سوري! كيف حصل ذلك؟ عند أهل طرطوس الخبر اليقين.
تتباين الآراء في طرطوس حول المشهد السوري، فالجميع متفق على خلل ما في مكان ما، لكن الاختلاف في مكمن الخلل. فبين من يلقي باللوم على «حزب البعث»، يلقي آخرون بالمسؤولية على الفريق الاقتصادي للحكومة السابقة والحالية، لكنهم مؤمنون بدور للأسد والجيش النظامي بإعادة الاستقرار إلى البلاد.
هكذا يعتبر جميل، وهو صاحب مشروع متوسط في المدينة، أن سياسات الحكومة الاقتصادية أدت لضرر كبير في البلاد، وخاصة في الحياة المعيشية، فتراجعت الطبقة الوسطى لمصلحة الطبقة الفقيرة، معتبرا أن دخول مشاريع استثمارية عززت دور القطاع الخاص وقضت على الحكومي، لدرجة أن رئيس حكومة اسبق وصف الحال في بعض القطاعات الحكومية بعبارة «حسبنا الله ونعم الوكيل».
ويمضي الشاب في انتقاده سلوكيات الحكومة، لدرجة انك تخاله معارضاً شرساً للنظام، لولا صورة الرئيس المعلقة في مكتبه، ويعتقد أن «الأسد محاط بطبقة من الشخصيات التي لا تزال تعيش عقلية التسعينيات، وتحارب اي فكر تطويري، بينما الأسد يتمتع بشعبية هائلة، وقد زار طرطوس، وبدا قريباً جداً من الشعب. وحتى في خضم الأحداث التي تعصف بالبلاد، استمر بلقاء وفود شعبية أظهرت له أين يقع الفساد وحال المواطنين، وهو ما انعكس في مشاريع الإصلاحات التي اقرها الرئيس الشاب».
أما مروان، وهو متخرج من كلية الاقتصاد العائد إلى مدينته، فيعتبر أن الأسد قادر على انتزاع أكثر من 90 في المئة من أصوات السوريين، في الاستحقاق الانتخابي. وكان يتمنى أن تجرى الانتخابات الرئاسية الآن، لسد الذرائع أمام كل من يقول ان الشعب لا يريده. ويعتبر أن البلاد بحاجة لحركة تصحيحية تشبه تلك التي قادها الرئيس الراحل حافظ الأسد قبل 42 عاما.
وبالعودة إلى التاريخ نكتشف، بحسب رأي الشاب الاقتصادي، أن الخلل لطالما كان في «حزب البعث»، بدءاً من حركة شباط العام 1966 وصولاً إلى اليوم. ويعتبر أن «البعث» اليوم مطالب بإعادة ترتيب البيت الذي ترهل كثيرا، بسبب سياسات البعث الخاطئة، ولو عاد الحزب إلى قواعده في أيام التأسيس في أربعينيات القرن الماضي فسيعود حزباً قويا.
وعندما يذكره زميله بأن الأسد هو الأمين العام لـ«البعث»، يوضح الشاب ان «سيادته لا يستطيع مراقبة كل مفاصل الحزب، وهذه مسؤولية القيادات والشعب الحزبية، ضمن مفهوم العمل المؤسساتي».
أما مجد، الذي يعمل مهندسا، فيعتبر أن ما يحدث ليس ثورة إنما فتنة طائفية من المطلوب أن تتشدد الدولة في التعاطي معها، «لكن الأسد قام بمعجزة حين أطلق الحسم الأمني والعسكري، وفي الوقت ذاته بدأ مسيرة الإصلاحات فأعلن عن دستور جديد عصري ومتكامل، وانتخاب المجالس المحلية والبرلمان، وفق قانون انتخاب جديد، إضافة للأحزاب الجديدة، وهو ما لم يقم به أي زعيم عربي».
ويعتبر الشاب، الذي يرفض الهجرة رغم فرص العمل شبه المعدومة بحسب رأيه، أن الحياة السياسية الجديدة أفرزت اليوم معارضة وطنية، تتعين عليها المشاركة في الحكومة، وإعادة بناء سوريا الجديدة، أما معارضة الخارج فلا أمل منها ما دامت تطالب بالتدخل العسكري وترسل المقاتلين الأجانب إلى الداخل.
ويمكن تلخيص المزاج العام هنا في أمل المواطنين في أن تنتهي العاصفة التي تهب على بلدهم بأقصى سرعة، وأن يحدث هذا من دون أن تشهد مدينتهم الوادعة أي حدث أمني، فهل ينجح تضافر جهود السكان مع الجهات الأمنية بذلك؟ أيضاً لا يرغب الكثير ممن عملوا أو درسوا في بعض المحافظات التي تشهد أحداثا دامية، أن يشاهدوا آثار الدمار والتخريب التي حصلت هناك، كما أن هنـاك رغبة عامـة في المحافظـة على الصورة الجميـلة السـابقة لتـلك المناطـق في المخيلة، لعل العاصفة تنحسر ويعيد السوريون معا بناء ما دمره النزاع.
"السفير"