في المقالة السابقة حاولتُ أن أضع لنفسي أساسا تاريخيا،ومبدئيا،وفكريا سياسيا،ومجموعة عناصر تحدد أو تؤطر بصورة عامة لعمل وعلاقات المعارضة مع بعضها بشكل عام،في هذه المادة وقبل الوصول إلى أوضاع المعارضة السورية بالترافق مع الحدث الدراماتيكي الذي انطلق في الوطن \آذار\2011\سأقوم بمتابعة مكثفة لكل عنصر محدد عياني(أي تأثيرات الشرط) له قيمة في مستوى التراكم التاريخي "للمعارضات" السورية وأشهر نخبها،كجماعة أو أفراد،وما تركته،أو "ورّثته" للمجتمع والشعب السوري والأجيال!؟ وصولا إلى مسألة المؤتمرات المتعددة،معتمدا تلك الأسس المبدئية والفكرية.
- 1- إذا استثنينا فترتين قصيرتين في التاريخ السوري المعاصر،فترة\1954 -1958\وفترة الانفصال\1961- 1963\حيث استطاعت خلالهما الرأسمالية"الكبيرة"السورية أن تدير نظما سياسية ديموقراطية،بضعف شديد،وعدم استقرار،قصور وعجز شديدين أيضا في تمثيل المصالح،أوالتنافس في الحدود الدنيا عليها مع تعبيرات الفئات البورجوازية الصغيرة البينية،على الصعيدين الطبقي الاجتماعي،والقومي الوطني،بحيث استطاعت تلك الفئات تكوين قوى وتعبيرات حاسمة بفعاليتها على مدى طويل،ووصلت إلى السلطة السياسية مراراً عديدة عبر ممثليها في الجيش(الانقلابات العسكرية)،في أحيان غير قليلة أعادت فيها الحالة الديموقراطية والرأسمالية الكبيرة إلى قمة الهرم السياسي،كما حصل في مجموع الانقلابات بعد الاستقلال،خاصة الانقلاب على الشيشكلي الذي نفذه الضباط البعثيون،وفي المرات الباقية،شقت لنفسها طريقا خاصا جدا في التاريخ الاقتصادي الاجتماعي السياسي،تاريخ النظم الرأسمالية،وبشكل خاص في شكل النظام السياسي ومحتواه في البنية الفوقية السياسية(غير ديموقراطي بامتياز-قمعي بامتياز)بخصائص وسمات تختلف جذريا عن فكرة نظم الاستثناء التي خلقتها الرأسماليات الكبيرة لتجاوز أزماتها مع القوى الاجتماعية الثورية،بينما هنا وعلى العكس تقدمت الأقسام والفئات الطبقية الاجتماعية الأكثر أهمية من منظور الجسد والكم الاجتماعي كما من منظور المصالح الثورية في قسم كبير منها،تقدمت إلى التاريخ عبر ممثليها وتناقضاتهم ببعضهم،وفرضت أنظمتها الخاصة،كان نظام الوحدة (عبد الناصر)أولها،وكان نموذجا أو مثالا للتطور اللاحق في سوريا.
-2- أهم ما تميزت به هذه النظم أنها كانت قمعية وديكتاتورية في العمق الطبقي الاجتماعي والبنية العامة الخاصة بالفئات البينية الوسطى،لموقعها الضائع تاريخيا،أو الممزق بين الطبقات الأساسية وأشكال الملكية الأساسية والنظم التي يمكن أن تقوم عليها،بحيث تجد نفسها وممثليها في حالة دفاع وحماية دائمة لنموذجها الخاص،وذلك عبر القمع،وسار تطورها في سوريا باتجاه نموذج رأسمالية الدولة البيروقراطية المتضخمة لأسباب عديدة،والتي جمعت مصالح واسعة لأجزاء هامة أيضا من الفئات البينية،ليستمر القمع والديكتاتورية الاجتماعية،بالترافق مع أشكالها السياسية المختلفة،ديكتاتورية فرد،ديكتاتورية حزب،طواقم عسكرية وأخرى ضيقة،أسرية أو ما يشبهها،وهذا ما فرض على كل اتجاهات المعارضات وطيوفها أن تواجهه(نظم سياسية ديكتاتورية،احتكارية للسلطة،ذات أساس اجتماعي تاريخي معقد وفاعل)
-3- وهكذا بعد التأميمات الراديكالية التي شملت حتى قطاعات واسعة متوسطة الملكية،فإن ما تكون من فئات رأسمالية كبيرة لاحقا،كانت قد قامت في أحضان ذلك النمط وعلى هامشه لزمن طويل،وبقي لصيقا بقيادة تلك النظم والسلطات لتمثل مصالحه والمصالح المشتركة الكلية،فلم ينشأ أي اساس طبقي رأسمالي كبير،أو أي فئة على أسس ديموقراطية،أو لتفكر بوعيها الذاتي بطريقة ديموقراطية كفاحية،خاصة وأن النظام الذي تشكل حافظ بشراسة على القوانين القمعية ومنع التمثيلات المستقلة الحزبية السياسية الديموقراطية،وهكذا جاءت الانقسامات السياسية الحزبية المعارضة في غالبيتها الكاسحة في الاطار الاجتماعي السياسي أيضا للفئات البينية والبورجوازية الصغيرة،أي أنه لم ينشأ أي أساس طبقي رأسمالي اجتماعي فعال مخالف بوضوح وقوة،لم ينشأ أي أساس عميق مخالف في المصالح الاجتماعية الطبقية أو الوطنية العامة،وشكل هذا نقطة ضعف موضوعية هائلة من منظور وإمكانية فعالية عمل المعارضات ضد طابع النظام السياسي الديكتاتوري.
-4- بالمقابل لم يتشكل أي قطب طبقي اجتماعي ثوري آخر في إطار الطبقة العاملة أو صف العمل الطبقي على العموم،بقيت التناقضات والصراعات الفاعلة في إطار الفئات البينية،وبقي الصف السياسي الذي يدعي تمثيل الوضع الطبقي الاجتماعي الثوري منقسما بشدة بين موالاة ومعارضة،(شيوعيون وقوميون)وبقيت المعارضة منه هي الأكثر ضعفا اجتماعيا وسياسيا،أي اليسار الجديد في حزب العمل الشيوعي،والحزب الشيوعي السوري(المكتب السياسي،قبل أن يراجع ذاته ويتحول إلى الليبرالية السياسية ومتطلباتها!) وبقايا اليسار القومي في الاتحاد الاشتراكي و23 شباط.
-5- وكانت المشكلة الاضافية في انقسام المعارضة السياسية السورية أن الأطراف الأكثر فاعلية تاريخيا فيها (الأخوان المسلمون وتفريعاتهم،وبعث العراق)معارضات لا توحي ولا تسمح بأي ثقة أو أمان من منظورات ديموقراطية،بل توحي وتؤكد على البنية القمعية والعنيفة والطائفية أيضا،أي غياب أي إمكانية في تجاوز النظام القمعي القائم،وصبغ هذا بمسوح عميق كل أطراف المعارضة الأخرى التي فكرت جديا بالتعاون مع نظام صدام حسين،أو تقاضت منه مساعدات مالية وعسكرية،أو اختلفت بين بعضها حول ضرورة التحالف مع أي من الأخوان أو بعث العراق،كما حصل بالترافق مع النقاشات التأسيسية للتجمع الوطني الديموقراطي،أو لاحقا فيما بعد هزيمة الأخوان وتشكل جبهة إنقاذ سوريا باحتضان عراقي صدامي.
-6- نتابع في ما نسميه الحد الحضاري وموقع الوطن السوري منه،بشكل خاص ما نطلق عليه البناء الفوقي الثقافي والفكري،الديني وغير الديني،العادات والتقاليد،مستوى التراكم الديموقراطي،البنية الاجتماعية-السياسية،العصبيات ودورها مقارنة بسويات الوحدة الوطنية والمجتمعية ومفهوم المواطنة الديموقراطي،ويمكن الاشارة إلى الملاحظات المكثفة التالية:آ- غياب طويل وعميق لأي تجربة ديموقراطية جدية،لتكسب البنية والتركيبة السورية ومفرزاتها السياسية وعي المواطنة وقيم الديموقراطية المتطورة.ب- مما جعل البنية السورية الفسيفسائية والمتعددة هشة،وسمح بظهور وتقدم الولاءات المتخلفة والعصبيات السيئة،على حساب انتماء المواطنة،والعصبيات فوق الوطنية،والقيم الديموقراطية.ج-وأثرّ كل هذا على الوعي السياسي الحزبي،فقام أساسا في جزء منه على العصبيات المذهبية،كما هي حالة الأخوان المسلمين مثلا،أو عندما أبدى النظام نفسه سمة طائفية في قمة الهرم السياسي وبعض أهم مواقع النفوذ السلطوية،مما سمح بظهور حقول طائفية سياسية،وحقول أخرى مضادة،وسمح باستغلال الحركة الدينية السياسية المتطرفة لذلك،واستخدامه في التطييف السياسي.د- تقدم الديني المقدس-المحرم على حساب القيمي الديموقراطي،وسمح لبعض جوانب البنية المجتمعية والسياسية أن تمارس العنف والارهاب أحيانا،وأن تظهر ذلك في أكثر من موجة على مدى أكثر من مائة وخمسين عاماً.ح-تجربة معارضة متخلفة لم تتجاوز تلك الشروط السلبية وغيرها،أي تجربة نخب سياسية وثقافية وفكرية تأثرت بعمق بتلك الشروط واستُقطبت إليها عوضا من التملص الناضج والتجاوز،ولم تستطع على مدى طويل أن تحافظ على مشروع الحد الأدنى المشترك وطنيا وقيميا،عداك أن ترتقي إلى ما هو أفضل؟!
-7- من العناصر الهامة جدا،والذي يمكن اعتباره واحدا ثانيا في المركبة المزدوجة لجدل العناصر الأساسية،في مقابل أو بأهمية عنصر السلطة وقضية الانتقال الديموقراطي،كان عنصر المسألة الوطنية،أسباب وتاريخ تكونها وأهميتها،الوعي القومي ومنعكسات القضية القومية بتفاصيلها الأساسية على المسألة الوطنية،التناقضات والصراعات مع أطراف عدة خارجية وتزايد أهمية وخطورة القضية مع قيام احتلالات وتحالفات واستقطابات ومشاريع خارجية وتدخلات،تكوّن دور جغرافي -سياسي وطموحات سورية إقليمية بالتغاضي عن طبيعة السلطة القائمة،وهكذا تكون جدل خاص في المركب الديموقراطي الوطني،لعب ولا يزال يلعب دورا حاسما في التطورات وقضايا المعارضة وخلافاتها وانقساماتها كما سنرى.
-8- تلك كانت أهم العناصر والشروط التي حددت موضوعيا،وأثرت بعمق في تجربة المعارضات السورية،كيف نقيمها؟كيف تفاعلت المعارضة بطيفها المتنوع مع تلك الشروط؟!ما هي الحصيلة والخبرة التي كونتها،كيف أثر ذلك على قراءاتها ومواقفها وإطاراتها في الأحداث الأخيرة؟كيف نقيم عمل المعارضة؟كيف أثر ذلك وسيؤثر بحد ذاته على تطور هذه الأحداث؟!
أ- يجب الاعتراف أولا،بوضوح وجرأة أن مجمل الشرط السوري والعناصر الأساسية التي شكلت إطارا موضوعيا لعمل المعارضة،كان معقدا جدا،مركبا وصعبا،بشكل خاص ما أطلقنا عليه منه المركب الوطني-الديموقراطي(المزدوجة)،وهكذا كان طبيعيا تماما أن نلحظ التناقضات والخلافات في القراءة والمواقف،وتعدد الإطارات والمؤتمرات،وأن نلحظ مستوى الاستقطاب في هذا على ذلك الموضوعين،أو المركب،كان النجاح أو الفشل في إدراك ذلك الشرط،وقراءته بصورة صحيحة،ثم مقاربته برنامجيا بصورة صحيحة أيضا،كان وسيبقى معيارا حاسما في عمل المعارضات السورية،لأنه كان بالمقابل معيارا حاسما في تاريخ الأنظمة والسلطات السياسية السورية،وعلى رأسها النظام القائم على مدى طويل،وعلى الرغم من كل ذلك كان الشرط الموضوعي على العموم،وفي العديد من اللحظات التاريخية مواتياً لعمل معارض متطور وفعال،على درجة من التنسيق الإطاري والبرنامجي جيد ومتطور بحد ذاته،وهذا لم يتحقق بسبب الوضع الذاتي للمعارضة.
ب- كما يجب الاعتراف ثانيا:أيضا بجرأة ووضوح أن المعارضة السورية بأطرافها الأساسية وطيوفها قد دفعت ثمنا كبيرا وباهظا،ونادرة هي المعارضات في العالم المعاصر ممن دفعت ثمنا مشابها،حتى في أمريكا اللاتينية،(بشكل خاص الثمن الذي دفعته المعارضة السورية في مواجهة السلطة والنظام من نهاية السبعينات وعلى مدى أكثر من عشرين عاما)والمشكلة لم تكن أبدا في الشجاعة والاستعداد للتضحية والثمن المدفوع،أو الاستعداد لتكرار ذلك،بل كان في تعقيد الشرط،وقراءته،والأخطاء في إدراكه،كان في بنية وتركيبة ونهج النخب السياسية والفكرية والثقافية المعارضة،ولا يزال.
ج- وقبل التحديد المرّكز لمستوى الخبرة والتراكم في عمل المعارضة وتجاربها،يجب إلقاء الضوء على السمات الأكثر تميزا وتأثيرا وخطورة في( ذات وبنية وتركيبة ونهج وطريقة تفكير المعارضة،عمق ومستوى ارتباطها بالسمات الأكثرسلبية للواقع السوري)،لكن يجب التنويه بأن كل ما سيرد في هذا التحديد ليس شيئا خُلُقيا،ليس شيئا قدريا أو وراثيا،ليس شيئا ثابتا ومطلقا أو غير قابل للتطور والتغير،هو اكتساب طويل عبر علاقة معقدة بين الشروط الموضوعية وتفاعل ذوات (أحزاب ونخب قيادية وأفراد بأدوار خاصة ومميزة)المعارضات معها،بالتالي قابل للتفاعل والتغير،حددته التجارب الطويلة بالتراكم والفعل الاجتماعي والسياسي والفكري،وغدا بالإمكان تجريده والحديث عنه،وهناك ضرورة كبرى في ذلك من أجل التجاوز،إن أهم ما يمكن الإشارة إليه هو:1- كانت في الكثير من أحزابها وفعالياتها ورموزها،أو صارت لاحقا امتدادا لصيقا بالبنية الديموغرافية الفسيفسائية والمذهبية،والعصبيات المتخلفة،كما الأقلياتية السورية،أي أنها كمجمل الظاهرة الحزبية في سوريا عانت من عرج حقيقي في التمثيل الديموغرافي الوطني،وليس عبثا أن نتبين حقيقة النهج والجسد الطائفي الكامل عند مجمل قوى ومعارضات الحركة الاسلامية المتعصبة،وليس مستغربا أن نلحظ بأن المعارضات اليسارية،أو العلمانية عموماوكلما اقتربت من أن تتحول إلى قوة شعبية،تعرج في بنيتها وتركيبتها الديموغرافية لصالح تقدم وجود الأقليات بكل أطرافها فيها،هذا أمر يتعلق بالبناء الفوقي الفكري،غير الديني،والديني خاصة،وحدود تنويريته وتطوره وديموقراطيته،ضعف أوعدم انغلاقه على ذاته2- المعارضة السورية مغرمة جدا بموضوع السلطة السياسية وكل ما يتعلق بها إلى درجة مرضية في الكثير من الحالات واللحظات التاريخية،وعلى الرغم من أن الأمر يبدو وكأنه بديهي في تاريخ أي معارضة،إلا أن المعارضات السورية منذ زمن طويل ترى كل شيء من منظور السلطة،استراتيجية ووسائل الوصول إلى السلطة أساس أي برنامج،لا جدل آخر هام سوى جدل السلطة،لذلك ليس غريبا أبدا أن نلحظ كثرة استخدام مصطلحات من مثل:إسقاط النظام أو السلطة أو الديكتاتورية أو دحرها،كسر العظم،الثورة،الإشاعات بخصوص الانقلابات العسكرية،إشاعات الأمراض القاتلة للرموز السلطوية الأولى،المشاكل والصراعات فيما بينهم،وهكذا كان يجري عمل المعرضة في الكثير من الأحيان على أساس رد الفعل على السلطة القائمة،مما يدفع للتخلق بأخلاقها وقيمها.3-وفي هذه الحالة سيغيب الوعي عن قضايا أخرى هامة في الواقع،كما جرى تاريخيا في الموضوع الوطني وأهم الجوانب المتعلقة به،ليس عبثا أن المعارضات السورية لم تطرح يوما ولم تعرف يوما حالة قيام مقاومة مسلحة ضد الكيان الصهيوني مثلا،كان تطوع السوريين يمضي باتجاه المقاومة الفلسطينية لغياب الحالة التي نعنيها،ومن الصعب الاقتناع أن الأمر كان خوفا من السلطة السورية وردود فعلها على هذا الصعيد بسبب احتكارها للمسألة الوطنية واستعدادها للمعاقبة القاسية إذا تطاول أحد على ذلك الاحتكار،من الصعب التصديق أن العقوبة ستكون أكثر قسوة منها في قضية الديكتاتورية وإسقاطها وتغييرها وما شابه،شكل غياب الالتقاط الصحيح لجدل الديموقراطي والوطني ثغرة كبيرة في تاريخ المعارضة السورية،فعدا عن أنه أكد طابع الثرثرة المثقفاتية في الإطار الوطني،وسار على نظرية وممارسة"البعثيين"قبل السلطة وبعدها،ولم يتجاوزهم بخطوة واحدة،بل خنعوا أحيانا ولم يجرؤوا على تناول موضوع اللواء،كما أرادت أن تفرض السلطة السورية في الكثير من المراحل التكتيكية مع النظام التركي،إضافة لكل ذلك التهافت وقعت الغالبية الكاسحة من المعارضة السورية في التناقض والانقسام وحتى الانزلاق الخطيرإلى طلب التدخل الخارجي،وتضييع أهمية شرعية العمل المعارض الداخلي .الخ -4 وهكذا استطاع النظام أن يحول قسما كبيرا من أطرافها إلى معارضة ثأرية وحاقدة،بل إلى معارضة"قمعية"غير ديموقراطية تجاه بعضها،متلطية،شكوكة،اتهامية،تخوّن،تعزل وتبعد وتلغي بعضها الآخر لأسباب متخلفة،"كاذبة" وغير صحيحة في كل الحالات،ومارست ذلك على مدى طويل وبصورة واسعة ملحاحة،ولا تزال عبر الأسلوب الشفهي الذي يسّهل عملية التملص ويضيع المسؤوليات،إن ملفات وتاريخ المعارضات السورية الشفهية بين بعضها هامة جدا وخطيرة ربما أكثر من تلك الصريحة والموثقة-5 نادرة جدا هي أطراف المعارضة السورية التي لم "ترتمي"أو لم تمد"يدها"للخارج،أولم تطلب تدخله السياسي،وأحيانا العسكري،وتطور هذا الأمر من الحقل العربي الاقليمي بحجج الدعم الاستراتيجي العربي كمنظور قومي،فعامت المعارضات السورية بين العراق والأردن والسعودية ومنظمة التحرير الفلسطينية(سياسة وإعلاما ومالا وسلاحا)من الإسلام السياسي(الأخوان المسلمون وتركيباتهم)إلى أطراف من التجمع الوطني الديموقراطي دون أي احتجاج من مؤسساته أو أطرافه الأخرى،إن لم يكن تواطؤاً بالصمت!تطور ذلك في انزياح الوعي الوطني والاستبطان والاستعداد من العربي الاقليمي إلى المراكز الدولية الأكثر خطورة،وفي ذلك الإطار كانت وتطورت مواقف للمعارضة السورية في الكثير من الحالات-6تعددت الأطراف والفعاليات والمسيات داخل المعارضة،بتشابهات شديدة في البرامج والرؤى،إذ لم تعرف المعارضة عمليات توحيد فعلية،ما عدا تجربة تجمع اليسار الماركسي(تيم)التي امتدت زمنيا بدون تطورات جادة ودون مبررات حتى اختنقت ذاتيا تحت تأثير اختراقات الأزمة الوطنية.-7 العديد من أطراف وقيادات المعارضة كانت تقوم (بقفزات في الفراغ)على صعيد التحليل والمواقف،تنصت للخارج والإشاعات "وها هو النظام يكاد أن يسقط"؟! تعود للهمود وقفزات أخرى تراجعية،وتعود للقفز،كله بدون أي مراجعات جادة،تحاول الظهور كأنها مصيبة دائما وعلى حق،كل ذلك لا يسمح بالثقة والاطمئنان بأنها مؤتمنة بمواقفها خاصة عند الأزمات.-8 كانت المعارضة السورية إذن معارضة تنافرية،لم تكن معارضة تجميعية واتفاقية بين بعضها أبدا،وهذه مشكلة بحد ذاتها في أن تختلف على قراءات الشروط والأحداث،لأن هذا سيحدد الاستراتيجية والوسائل والتكتيكات والتحالفات وكل عملية البرنامج،وكثيرا جدا ما اختلفت المعارضة السورية في هذا الحقل الحاسم،لكن المشكلة الأكبر كانت في تضييع الفرص المتاحة عندما بدت متفقة على العديد من الأساسيات،مثال تجربة إعلان دمشق بعد دخول حزب العمل الشيوعي وتصويبه فيما يتعلق بالموقف من العامل الخارجي،وبعض الإشارات الخطرة أيضا في البيان التأسيسي على المكونات والمذهبية،عاد التيار الليبرالي الخارجي لإظهار استبطاناته الفعلية والتخلي عن الجدل الصحيح للديموقراطي والوطني،وتضييع الفرصة المتاحة،كذلك حصل بعد دمار إعلان دمشق وعودته إلى حقيقة المعارضات السورية والجهود الطويلة والمضنية في التيار الثالث،لتعود أطراف من المعارضة إلى القفز في الفراغ والتخلي عما اتفقت عليه،وتلتحق بالحراك الشعبي في قاع المجتمع بكل ما يعنيه الموضوع وفي كل الميادين(كما سنرى).-9 أخيرا:بدون شك أن تجارب المعارضة السورية الأكثر أهمية وشهرة قبل بدء الأحداث الأخيرة،كانت في الذهن،وبمجموعها قاطبة أكدت ذلك التفاعل بين الشروط والتاريخ الموضوعي والبنية والدور الذاتي،أكدت تلك الخلاصات،وتلك التجارب تشكل إغراء كبيرا في بحثها جملة وتفصيلا،وربما يكون هذا مادة للمستقبل،الآن يمكن تكثيف دروس تلك التجارب وتأثيرها على واقع المعارضة وعلاقاتها ببعضها بعد أحداث آذار \2011\الدراماتيكية،في كل مرة وتجربة يمكن التركيز على نقطة أساسية أو أكثر،أطرح كل هذا على الوجه التالي:اشتركت كل الأطراف الاجتماعية والسياسية في المرحلة"الرخوة" بعد الاستقلال بقضية الانقلابات العسكرية واستخدام الجيش كقوة حاسمة في التغيير،أكثر من ثلاث انقلابات حتى سقوط الشيشكلي قامت بها رموز عسكرية تمثل فئات طبقية وسياسية متنوعة على رأسها الرأسمالية الكبيرة،وإن كان هذا بصورة تمثيلية غير مباشرة(تنظيميا)،وحتى اجتماع المعارضة في حمص\1954\،كأول مرة أكد على ما ذكرناه،معارضة غير جمعية،لصيقة بولاءات المجتمع وعصبياته المذهبية والمتخلفة،تستغل الشروط فرديا لتطور نفوذها،اجتماع غير مكتمل،فيتو على بعض الأطراف،وأخرى ترفض حضوره،وطرف محدد(البعث وضباطه) ينفذون انقلابا عسكريا،خلافات عميقة في قراءة جدل الديموقراطي والوطني،قاربه حزب البعث أفضل من غيره بكثير وحقق الكثير من الفوائد بسبب ذلك في حينه ولاحقا،تجربة الانفصال وتحالفاتها المعارضة تابعت تلك الوقائع والسمات،بالترافق مع انقلاب اجتماعي طبقي سياسي عميق في صالح الفئات البينية والبورجوازية الصغيرة،تأسس سلطويا مع نظام الوحدة،وتركز بشدة مع نظام وسلطات البعث المتنوعة.كل التجربة والعمل المعارض الناصري بعد الثامن من آذار،وتناقضاته مع البعث السلطوي أكد ذلك،جبهة\1968\ الثلاثية(الاشتراكيون العرب-الاتحاد الاشتراكي-القوميون العرب)أكدت انقسام المعارضة وولاءاتها،غاب الأخوان المسلمون والأطراف الدينية الأخرى،غاب الشيوعيون،وقعت أطراف تلك الجبهة بخطأ تاريخي هائل في حساباتها الاجتماعية والطبقية بمحاولة مواجهتها لنظام 23 شباط،كانت قراءاتها خاطئة جدا،وقامت أساسا على تناقضات غير أساسية في صفوف ممثلي الفئات البينية(أبناء المطبخ الواحد)،وقامت بعد هزيمة الخامس من حزيران وما كان مفترضا أن تقيمه من أسس عمل وطني مشترك وموحد،وهذا لم يحصل بل حصل مكانه شيء خاطيء تاريخيا.ثم مضى وقت طويل على استقرار الحركة التصحيحية،بعد ترحيب عالمي وعربي يميني،بعد ترحيب بورجوازي وديني ومذهبي سوري كامن ومعادي بعمق لحركة 23 شباط، بعد هزات وغربلة وإعادة استقطاب اجتماعي وسياسي جديد،بعد كل ذلك جاءت تجربة التجمع الوطني الديموقراطي المعارض،وتجربة الأخوان المسلمين ومرحلة الصراع الدموي العنيف بين الحركة الدينية والنظام والمواقف الأخرى(التجمع،اليسار الجديد وحزب العمل الشيوعي،وبعث العراق،والعمل الفلسطيني المعارض للنظام السوري.أول ما فعله قيادات التجمع الخمسة هو الاتفاق على(الفيتو)لا لرابطة العمل الشيوعي،فهي حسب رياض الترك توليفة وقنبلة مرتبة إما من قبل المخابرات السوفييتية،أو مخابرات النظام-علي دوبا-،رفض دخول الأخوان المسلمين حسبما ادعى الاتحاد الاشتراكي أنه كان مطلبا له،ورفض دخول بعث صدام،بحسب ادعاء أكثر من طرف أنه كان مطلبا له،ووافق السيد المرحوم الدكتور جمال الأتاسي بسهولة على وجود 23 شباط على الرغم من العداوة التاريخية في الجبهة\1968 الثلاثية\ رغبة في إمكانيات الحركة العسكرية،وكاتب المقال يعرف مدى اهتمام الدكتور جمال بذلك،بعد اعتقالات ضباط عسكريين كثر باسم رابطة العمل،والدكتور جمال أوضح أكثر من مرة بأن التنظيمات السياسية التي تضم ممن تضمه علويون،(على عكس حالة تنظيميه،بسبب عرج الاتحاد الاشتراكي في التمثيل الديموغرافي الوطني ،على عكس حالة حزب العمل الشيوعي)هي تنظيمات لديها قدرة على التأثير في الجيش،لعبة الرئيس الأسد الأول الملكيةنوكان السيد الأتاسي وهو الديموقراطي بتميز نسبي على المعارضات التقليدية الأخرى،كان مهتما بكل ذلك،وسسالني في مرات عديدة عن الأمر وعن الاحتمالات العسكرية في الانقلاب،وكنت في كل مرة أجيب من منطلق قوة الوقائع التاريخية في الحقل الطبقي والاجتماعي والعسكري،وليس الطائفي،وسار التجمع زمنا طوييلا دون أي فعل يذكرنإلا في الحقل النخبوي الضيق جدا،لا بل تواطأ بمؤسساته وبعض أطرافه مع كل ما ذكرته من ملاحظات،بل زاد على ذلك كثيرا،اتضح للإتحاد الاشتراكي أن منهج ومنطق وتكتيكات رياض الترك هدامة جدا وتريد أخذ التجمع ليس فقط كما حصل إلى أحضان صدام،أو أحضان الأخوان المسلمين بحجة ضرورة توفير إمكانات إسقاط الديكتاتورية،بل إلى تدخل خارجي غربي سافر،حتى ولو كان أصحابه يفعلون ذلك خدمة لإسرائيل بصورة غير مباشرة أو مباشرة،وليس كرمى عيون الديموقراطية،واتضح كل ذلك صريحا من ندوة السيد رياض في منتدى الأتاسي،واتضح صريحا بالإصرار على رفض أي وجود قيادي لحزب العمل في أي عمل معارض(إعلان دمشق)مثلا وكل التحضيرات التي جرت لأجله،وفي كامل الموقف من مؤتمر دير الزور في بيت"الشيخ"نواف البشير،بقيادة لجنة العمل الوطني لدير الزور(الشيخ نواف وغيره من لجنة دير الزور،يعرف الكثير في هذا الخصوص ولا أدري لماذا يصمت؟!).أما تجربة جبهة إنقاذ سوريا"الصدامية"،وعلى الرغم من انتساب (رفيقنا المرحوم خالد الجندي إليها خارج موقف وتوجهات حزب العمل الشيوعي في ذلك كليا،وهزالة التأثير التعبوي للطاقم القيادي في حزب العمل عليه في ذلك الموقف )فقد كانت الجبهة المثل الأكثر بؤسا في تاريخ المعارضة السورية،في حضن الديكتاتورية الأكثر شراسة من منظور القمع وطابع السلطة والنظام،فقد تم اختراق التجمع الوطني الديموقراطي من قبل أطراف قيادية هامة من أحزاب التجمع إلى جبهة صدام،كما تمت عمليات "قبض" دعوم كبيرة خارجية ومن نظام قمعي وديكتاتوري متفوق على النظام السوري بامتياز،وكل ذلك في حياة قيادة تاريخية للإتحاد الاشتراكي الأكثر"كارزمية وتنبها وذكاء وديموقراطية"(د:جمال الأتاسي)،وهذا استدراك ضروري للمستقبل القريب؟!بالطبع،وبوضوح شديد،في كلا التجربتين صمت الاتحاد الاشتراكي عبر قيادته التاريخية الأرقى كما ذكرنا على نهج السيد رياض الترك،وصمت على الدعوم الصدامية المالية،والدعوم المالية الفتحاوية،صمت على منطق الاتهام الطائفي والمذهبي،واكتفى بالمقايضة على قضية وجود الأخوان المسلمين في التجمع،صمت مع معرفته المطلقة(على الأقل بعد الاعتقالات الأولى لحزب العمل الشيوعي،إن لم نقل العديد من الاعتقالات اللاحقة)أن حزب العمل الشيوعي يمثل تركيبة ديموغرافية سكانية وطنية من طراز رفيع وغير موجودة في أي حزب وطني آخر(وهذا أمر متروك لأي بحث ميداني في تركيبة معتقلي أحزاب المعارضة السورية،تعالوا إلى ذلك لمن يريد؟!)،أما الأخوان المسلمون فقد قالوا لبيان التجمع في ربيع\1979\أيها الشيوعيون عودوا إلى جحوركم،ولم يعودوا،ومتروك لكم أن تفهموا وتقدروا لاحقا من التحق بصفوف الآخر منهجيا وطائفيا وسياسيا؟!التجمع أو بعض أهم قواه،أم الأخوان المسلمين؟!أما في تجربة إعلان دمشق التي دفعت بعناصر وتفاعلات أطراف المعارضة إلى النهايات القصوى،التي لم تختلف بأي صورة ملحوظة عما حدث بعد أحداث آذار\2011\في أوضاع المعارضة،فيجب ذكر ما يلي بصورة خاصة:رفض مطلق من قبل اتجاه السيد رياض الترك بإشراك حزب العمل الشيوعي بالحوارات التمهيدية للإعلان،لأسباب تتعلق حتما بالخلافات الحقيقية حول العامل الخارجي واستراتيجية التغيير الديموقراطي ومتطلباتها،ومحاولة فرض ذلك على الإعلان وأي طرف يريد الالتحاق به،خاصة حزب العمل وأمثاله،ولقد وافق حزب الاتحاد الاشتراكي وكل أطراف التجمع على ذلك بنهج وسلوك" ديموقراطي عميق"،ومتكرر بعد تجربة التجمع الوطني الديموقراطي سابقا؟!وحصل عمل كواليسي هائل مع الأخوان المسلمين،لا بل حتى مع السيد خدام والسيد رفعت الأسد،وكان المطلوب عمل براغماتي صريح لا حدود أخلاقية ومبدئية وسياسية له،إلا إسقاط النظام،وانفتح ذلك واضحا وصريحا من بيان تأسيس الإعلان،بما فيه الاستبطان"الصريح"للتدخل الخارجي الأمريكي وغيره،كان واضحا إلا للاتحاد الاشتراكي؟!يا سبحان الله؟!وقبلت العديد من أطراف المعارضة قصة أن الأمين العام للاتحاد وقع البيان بعد رؤيته له كمسودة للمرة الأولى والمطلوب مسامحته حسب عدد من رفاقه القياديين،أما تجربة التيار الثالث وكونها لم تنته بتوقيع وثائق،فسأتركها للمقال التالي.
فاتح محمد جاموس\18\10\2012\
---------
المقال يعبّر عن رأي الكاتب والمعارض فاتح جاموس، وليس الموقع.