بقلم شانتال فيردل: مؤرخة ومتخصصة بالعالم العربي تحت الحكم العثماني، وبمسيحيي الشرق
العنوان من اختيار المترجم
ترجمة : صلاح نيوف
منذ بداية العصر الحديث، ترك المبشرون في الشرق الأوسط كل اشكال التبشير عند المسلمين،و فقط الأقليات التي تعيش على هامش الإسلام كانت تثير اهتمام وأمل المبشرين. في عام 1830 سجل اليسوعيون العديد من حالات تغيير العقيدة عند الدروز قبل أن يخففوا من تبشيرهم في المناطق الدرزية لاكتشافهم أن تغيير المعتقد هدفه التهرب من التجنيد الإجباري ، وبعد عشرين عاما، أراد المبشرون إعادة التقرب من الإسماعليين و العلويين، مع العلم أنهم لا يميزون جيدا بين الطائفتين.
مع بداية القرن العشرين، كرّس " هنري لامونس" العديد من المقالات للفرق الإسلامية التي أعطت أملا للتبشيريين بإمكانية التغيير إلى المسيحية. ففي دراسته " تدقيق تاريخي حول سورية" المنشورة عام 1921، يصنّف النصيريين بالعنيدين، كما هو حال الدروز، لاسيما بالانتفاضة على السلطات المحلية. وهنا تظهر العلاقة بين التحول الديني والسلطة السياسية: فالأمل يأتي من أن النصيريين والدروز لا يريدون الخضوع للسلطة العثمانية السنية.هذه الملاحظات التي توصّل إليها المبشرون أكدت لهم عداوة هذه الأقليات للسلطنة العثمانية وبالتالي لدينها أيضا. يقولون :" إن معتقد هذه الأقليات ليس له علاقة مع الإسلام"، ووفق نفس الكاتب فهو يقدم النصيرية " كتوفيق أو توليف syncretisme متفرد لعناصر من المسيحية، والإسلامية". ويستحضر الإيمان أو الاعتقاد " بالتثليث" أي الإمام علي، النبي محمد، وأصحابه.
عنصر آخر يوضح للكاتب العلاقة بين النصيرية والمسيحية وهو طقس النبيذ أثناء ممارسة المعتقد وهذه ما تتبناه المسيحية في العديد من أعيادها الدينية. ومن جهة أخرى، المسيحية تختلف عن النصيرية في أن هذه الأخيرة معتقد سريّ وأن النساء لا يمارسنّ عبادات أو طقوس دينية. دراسة أخرى عن العلويين كنبها الأب " جان إيميل" في عام 1934، وقد أصبح فيما بعد متخصص في الإسلاميات ومدير لمجلة " في أرض الإسلام". يوصّف هذا الأب بلاد العلويين وعادتهم وأحوالهم الاجتماعية، وأخيرا معتقد العلويين الذي يشكّل في رأيه "مزيج من المعتقدات في الاعتقاد والممارسة".
حملت دراسة هذا الأب عنوان " من الحروب الصليبية إلى الانتداب الفرنسي" لكنها لم تتحدث عن الأصول المتقاطعة للعلويين بل تبيّن فقط " التأثير المسيحي الكبير على معتقدهم" قبل تحوله الكامل إلى النصيرية أو العلوية. إن وجهة نظره هذه تختلف عن وجهة نظره المنشورة في مقال مكرّس للحديث عن البعثة التبشيرية ونشر في " الآباء اليسوعيون" عام 1936. إن بعض النجاح الذي حققه المبشرون عند العلويين السوريين يتبنى أطروحة الأصول البعيدة المتقاطعة بين المسيحيين والعلويين:" عادات وتقاليد، ثم سكان جبليون لديهم عيون زرق وشعر أشقر [....]، لقد تبنوا فكر علي بن أبي طالب لما يطرحه من نظرة مغايرة للإسلام التقليدي".
يرى المبشرون أن عزلة العلويين في الجبال كانت بسبب البحث عن الحماية من هيمنة العثمانيين والمسلمين." خلال عقدين من الزمن، كان على الفلاح العلوي، الفقير، المكبل بالبؤس والمنهار من الضرائب والمضطهد من قبل رجال السياسة والدين، اللجوء إلى هذه الجبال القاسية والشاقة. قاسية لكنها تحميهم وتسمح لهم بالدفاع عن أنفسهم، كما هو حال جبال لبنان بالنسبة للموارنة. شكّل الجبل حياة عائلية لهم، حرية يحصلون عليها كل يوم بعيد عن الاضطهاد، طائفة مضطهدة لكنها نقية وفخورة بمعتقد سريّ، ولكنه مازال معطرا ببعض الذكريات المسيحية".
هذه الذكريات المسيحية كان على المبشرين إعادة إحيائها. إن رسائل المبشرين المتمركزين في جبال العلويين والتي كانت توجه للمسؤولين عنهم في البعثة لم يكن لها نفس النغمة. حيث لا نجد فيها دائما خطابا متماسكا أو موثقا، ولا شهادات حول معتقد العلويين. لقد اهتم المبشرون بشكل أكبر بالحياة الاجتماعية البائسة التي يعيشها العلويون من خلال توثيقها بالصور.
العلويون: ثورة اجتماعية بأصول سياسية في الجبل
يحلل التبشريون الثورة العلوية الاجتماعية كثورة ناتجة عن وضع العلاقات الاجتماعية التقليدية في الجبل قيد إعادة القراءة والتساؤل، وليس كنتيجة عن وصول التبشير إلى جبال العلويين. فالاختلاف الكبير الذي حصل في بنية العلاقات الاجتماعية هو إعادة لشكل العلاقة بين الزعيم العشائري " أمين رسلان" وفلاحيه، هؤلاء رفضوا الاستمرار في حياة العبودية التي فرضت عليهم من عقود وبدؤوا في البحث عن مصدر لديه القدرة على مساعدتهم. هذه المحاولات لتحقيق الانعتاق الاجتماعي والرغبة في حياة إنسانية لهم ولأطفالهم كانت القاعدة التي بنيت عليها حالات التحول العقيدي.
ضمن هذا التحليل، الآباء اليسوعيون المبشرون لم يكونوا الأصل في التحول من دين لآخر، والدافع الديني لم يكن اساس التحول. فالمبشرون أقاموا في طرطوس بناءا على دعوة الآخوات المسيحيات في صافيتا وذلك من أجل دعم عملية التحول الديني هذا عند العلويين.لقد اكتفى المبشرون اليسوعيون بمرافقة الخطوات الأولى لهذه العملية وبتوسيع التواجد المسيحي. إن العلويين أنفسهم وجهوا الدعوات لليسوعيين المبشرين، ولم يأت اليسوعيون بأنفسهم للإقامة في مناطق العلويين. إذا، التواجد المسيحي التبشيري جاء بطلب واستجابة للدعوات من السكان المحليين. وجد المبشرون أنفسهم في قلب علاقات الصراع الاجتماعي عند العلويين. وبدعوة العلويين للتبشريين كي يأتوا إليهم وبتغيير بعضهم معتقده إلى المسيحية يكون بذلك قد وضع نفسه تحت حماية المبشرين وهي رسالة موجهة لزعمائهم وخاصة " أمين رسلان" أحد أقوى الزعماء آنذاك ولكل من يضطهدهم بشكل عام.
لقد ظهر اليسوعيون كمنافسين جدد لزعامة رجال الدين وزعماء عشائر العلويين، منافسة بدأت تهدد المراكز الاجتماعية لهؤلاء. لقد تطلبت هذه المنافسة تحالفا بين رجال الدين وزعماء العشائر في صراعهم ضد المبشرين، ولهذا السبب أيضا أصبح القرويون يقسمون على عدم اللقاء بالمبشرين. إذا فقدان السيطرة الاجتماعية والدينية حولت هؤلاء إلى ناقمين على تواجد اليسوعيين في هذه المناطق. في مواجهة هذه العداوة بين الطرفين لجأ المبشرون إلى سلطات الانتداب الفرنسي طلبا للدعم، دعم يمكن أن نصفه بالإداري ويتعلق بتسجيل أسماء الذين يغيرون معتقدهم في الإدارة المحلية حتى يتثنى لهم تسجيل معتقدهم الجديد على بطاقة الهوية الشخصية. لكن سلطات الانتداب رفضت مساعدة اليسوعيين واعتبرتهم سببا لعدم الاستقرار في مناطق تواجدهم، وهذا ما حصل فعلا مع الأب اليسوعي P.Ley رئيس البعثة التبشيرية في مدينة حمص عندما طلب تسجيل من غيروا معتقدهم على بطاقاتهم الشخصية لكن طلبه رفض بشكل دائم. بسبب الرفض الدائم لهذا التسجيل لجأ المبشرون إلى تسجيل من غير معتقده في مدينة طرطوس معتقدين أن ذلك أسهل بكثير من المدن الأخرى، لكن سلطات الانتداب قدمت تسهيلات لهم في فتح المدارس والجمعيات والأعمال الاجتماعية ولم تقدم أي تسهيل في عملية التسجيل.
في عام 1934، توجه الآباء اليسوعيون إلى اللاذقية طمعا في الحصول على هذا التسجيل، قابلوا السيد Schoeffler حاكم اللاذقية آملين في مساعدته، هذا الأخير كان معروفا بمناصرته لإقامة دولة علوية، فقد وافق على افتتاح مدارس ورعويات ولم يكن متشجعا على القيام بالتبشير وتغيير معتقد العلويين. وظلت عملية تسجيل من غير معتقده من العلويين في دائرة الأحوال المدنية عملية صعبة جدا ومشكلة أمام المبشرين اليسوعيين.
لقد كان عدد المتحولين إلى المسيحية محدودا جدا، ووصل إلى 200 شخص فقط، مع ذلك شكل التبشير ضجة و مشكلة للانتداب الفرنسي في سورية. فقد تحدثت الصحافة في دمشق عن عدوانية الآباء اليسوعيين المبشرين، وهذا ما جعل مساندة البعثة أمرا صعبا و قد تجنبته سلطات الانتداب. فضّل الفرنسيون التصالح مع رجال الدين وزعماء العشائر في مناطق العلويين على تسهيل مهمة البعثات التبشيرية. البعض من هؤلاء كان خصما عنيدا ضد تواجد المبشرين، والبعض الآخر كان أكثر ليونة، هذه الليونة مثلا أظهرها " عزيز بيك الهواش" الذي تصل سلطته لكل منطقة الدريكيش. لقد تفاوض المبشرون معه من أجل الإقامة في تلك المناطق، وقد وسّط المبشرون أصدقاء له من أجل الحصول على تسهيلات، وهو بدوره سجّل أبناءه الثلاثة في جامعة القديس يوسف في بيروت. إن القناعات السياسية عند " عزيز بك الهواش" قرّبته من الآباء اليسوعيين المبشرين، فالهواش مقتنع كما اليسوعيين بوجود خصوصية علوية تتوافق مع الفكرة السائدة اصلا عند اليسوعيين بأن العلويين ليسوا مسلمين حقيقيين. لذلك كان " الهواش" مع الدولة العلوية وضد اتفاقية 1936.
إذا، التحول الديني عند بعض العلويين كان لأسباب سياسية أكثر منها اجتماعية. فالمعاملة السياسية التي تميز العلويين عن المسلمين السنة نقلت تفكير هؤلاء إلى التحول الديني ولو بشكل محدود.
----------
موضوعات مرتبطة:
العلويون عام 1930 .. ثورة اجتماعية و"تأثيرات يسوعية"