د. سلام سفاف (دكتوراه في العلوم السياسية من جامعة تولوز1- كابيتول، فرنسا)
تتميز العلاقات التي تجمع روسيا الاتحادية مع سورية بأنها علاقات تاريخية بأبعادها المختلفة الأيديولوجي و السياسي و العسكري و حتى الاقتصادي بينما تتميز علاقاتها بالغرب بأنها رديئة على مستوى القضايا المركزية في الأمن الدولي, حيث تبتعد روسيا رويداً رويداً عن أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية. بالرغم من أن روسيا استفادت من ازدهار تجارة البترول و من ضعف سلطة التأثير الأمريكية على المستوى الدولي في الآونة الأخيرة إلا أن أساس القوة الروسية بقي ضعيف و إمكانية التأثير في السياسات الخارجية لبقية الدول ما زالت محدودة. في الحقيقة, تطمح روسيا بما تملكه من تاريخ و مقومات جيوسياسية ضخمة بلعب دور كبير في قضايا الأمن الدولي و اعادة ترتيب المنظومات الإقليمية في محيطها الجغرافي بما يحقق مصالحها و يضمن أمنها القومي. ضمن هذا المعطى, تمتلك سورية موقعاً فريداً على خارطة الطموحات الروسية بسبب عمق العلاقات التاريخية بينهما و التمسك السوري بالبعد الإيديولوجي – التاريخي الذي شكل دافعاً لتموضع سورية في ذلك الموقع السياسي المستقل نسبياً في مواجهة الغرب عموماً, فـسورية لازالت تمثل ذلك الشريك المفضل لموسكو في المشرق العربي خاصةً و الشرق الأوسط عامةً.
الإدراك الروسي لمفهومي الأمن و التهديد
إن النهاية المفاجئة للاتحاد السوفيتي أظهرت لزعماء روسيا الجدد أهمية إيجاد التوازن بين البحث عن الهوية للدولة الجديدة و ضرورة ضمان أمنها في بيئة دولية متحولة, فالعامل الخارجي هو المحدد الأكثر قوة في تكوين مفاهيم روسيا الجديدة حول أمنها و هويتها الوطنية (أو بالأصح ماهيتها الدولتية) و الذي يتمثل من دون أدنى شك في توسيع حلف الناتو شرقاً, أي في المجال السابق لنفوذ الاتحاد السوفيتي من خلال عزل روسيا خارج الحلف.
بالنسبة لمتخذ القرار الروسي: تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى توطيد هيمنتها على عالم ما بعد الحرب الباردة ( فرض الإملاءات السياسية و العسكرية و الاقتصادية و إقامة نظام عالمي وحيد القطب في القرن الواحد و العشرين حيث يتم تقرير مصير الشعوب من واشنطن), و قد اختارت حلف الناتو كأداة جيدة و مفضلة لتحقيق هذا الغرض في حين وضعت الأمم المتحدة جانباً.من جهةٍ أخرى, تدفع إستراتيجية الهيمنة هذه الدول الغربية إلى تشجيع و دعم الحركات الانفصالية حيث يستفيد بعضها من الاعتماد على المنظمات الإرهابية الدولية. هذا يعني, بالنسبة للقادة الروس, أن الدول الغربية متورطة في تلك المنظمات التي تهدد النظام الدولي المكون من الدول ذات السيادة. هذا التناقض بين رغبة الغرب بضمان توازن النظام الدولي من جهة و بين إرادته بالهيمنة عليه بلا منازع من جهةٍ أخرى قادر على إحداث خلل كبير في أليات الحراك السياسي على المستوى العالمي.
و يمكن اختصار الإستراتيجية الأمريكية بعد الحرب الباردة بالتالي: العثور على مكان يكون معه بالإمكان توسيع دائرة نفوذ حلف الناتو, و قد وقع الخيار على يوغسلافيا حيث أعطى الوضع الداخلي فيها ( صراع اثني) الحجة لتدخل خارجي. بالإضافة إلى أن تفاقم أزمة كوسوفو بشكل مصطنع من قبل الدول الغربية بغاية توسيع منطقة نفوذهم و اختبار إستراتيجيتهم العالمية الجديدة بشكلٍ فعلي, وهذا كله كان تحت ذريعة منع وقوع كارثة إنسانية .
يرى القادة الروس إن التهديد المباشر يكمن في الإرادة المؤكدة لحلف الناتو بالسيطرة على البلقان, كذلك أيضاً في مشاريع الهيمنة الأمريكية التي تشكل حسب رأيهم المصدر الرئيسي لانعدام الأمن أو تهديد جوهري للأمن العالمي بعد الحرب الباردة. هذا ما أثار استنكار القادة الروس خاصةً أن وضع روسيا بوصفها عضواً دائماً في مجلس الأمن تمثل أحد أهم الدول ذات القوة و النفوذ من بقايا الاتحاد السوفيتي.
أثر البعد الإيديولوجي في العلاقات التاريخية بين سورية و روسيا
امتلك الاتحاد السوفيتي (سابقاً) علاقات دبلوماسية قديمة مع سورية حتى قبل اعتراف المجتمع الدولي رسمياً باستقلالها في نيسان 1946. فقد طور البلدان علاقات ثنائية و متعددة الأوجه من أواسط عقد الخمسينيات و حتى بداية عقد الثمانينيات. و حسب المؤرخ الأمريكي Walter Laqueur " تبدو سورية خياراَ واعداً أكثر من مصر بالنسبة للاستثمارات السوفيتية الكبرى و لأنها الأقدر على إبراز الأهمية السياسية لجميع المزايا و المساعدات التي تقدمها روسيا" . خلال عقد السبعينيات, بعد قطيعة الرئيس المصري أنور السادات للكتلة السوفياتية و تحالفه مع الولايات الأمريكية, بلغ العون و الدعم الروسي لدمشق أوجه و أصبحت سورية الزبون الأول (غير الشيوعي) للسلاح السوفيتي, غير أنه, لم تكن روسيا جاهزة آنذاك لدعم دمشق بنفس ذلك القدر من الحماية و الدعم المقدم لإسرائيل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
في بداية عقد الثمانينيات, بدأ غروب شمس العلاقات السورية-السوفيتية, حيث أسست البرسترويكا "perestroïka" المعلنة من قبل ميخائيل كورباتشوف لتغيير حقيقي في العلاقة بين موسكو و دمشق: لقد تراجعت شحنات الأسلحة السوفيتية على الفور في حين شكل التقارب الروسي- الإسرائيلي و تدفق المهاجرين اليهود الروس إلى إسرائيل حجر عثرة بين الجانبين. إن جوهر العلاقات السوفيتية ـ السورية قبل أي اعتبار هو إيديولوجي, سرعان ما تبخر بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في كانون الأول 1991 , مما حتم على روسيا الاتحادية إعادة بناء سياسية شرق أوسطية من نقطة الصفر. فقد ركزت كثيراً على مصالحها التجارية و أعطت أهمية أقل للاعتبارات السياسية و الاستراتيجية لاسيما تلك التي تمثل أساس العلاقات الروسية – السورية, و اتجهت إلى تطوير علاقاتها مع السعودية, دول الخليج, اليمن, الأردن, لبنان و الدول غير العربية مثل تركيا و إيران.
خلال عقد التسعينيات, استردت العلاقات الروسية ـ السورية حيويتها و تم ترميمها جزئياً بعد القطيعة التي كانت بين عامي 1992-1994, و لم تكن إلا ظلاً لتلك العلاقات التي كانت في العهد السوفيتي . لقد كانت تحتاج لبعض الوقت لتستعيد سورية مكانتها الهامة في السياسة الشرق أوسطية لروسيا. فهذه المكانة كانت محددة بالأحداث الإقليمية و العالمية بشكل كبير.
أهمية سورية في سياسة روسيا الشرق أوسطية
بعد وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة, و خاصةً بعد الحرب الأمريكية على العراق, أصبحت الدبلوماسية الروسية اتجاه الدول العربية و الشرق أوسطية أداة من الطراز الرفيع لضمان الأمن الروسي و تحقيق النمو الاقتصادي. خلال رئاسة بوتين , أصبحت العلاقات مع سورية و باقي العالم العربي حكيمة و تنطوي ضمن سياسة الدفاع البراغماتي عن المصالح الروسية. في ذات الوقت التي كانت روسيا تبحث عن تأكيد حضورها في الشرق الأوسط تمنت سورية أن تلعب روسيا دوراً سياسياً أكثر فاعلية في المنطقة. إن روسيا تمتلك مصالح إستراتيجية خاصة في الشرق الأوسط تمر بمعظمها من البوابة السورية , من بينها: ضرورة امتلاك خط استراتيجي للوصول إلى البحر الأبيض المتوسط هو هم حقيقي و أساسي بالنسبة لروسيا. إن مثل هذا المعبر سيوصلها إلى المحيط الهندي و يدعم أمن خاصرتها الجنوبية. إن موسكو التي تشعر بأنها مطوقة من الأعضاء في مختلف التحالفات المؤيدة للغرب [كذلك أيضاً في إطار رابطة الدول المستقلة (La Communauté des États indépendants CEI)], تبحث بدورها عن تجنب المحاصرة من خلال إيجاد حلفاء من الدول العربية لاسيما تلك التي تعلن الود و التقدير للجهود الدبلوماسية الروسية باستثناء بعض الدول المنتجة للنفط و خاصةً المملكة السعودية بسبب ارتباطها العميق مع الولايات المتحدة الأمريكية, و هذا يثير بالفعل قلق الخبراء الروس من التأثير الأمريكي المهيمن على المنطقة .
حافظ بوتين على تأثيره الكبير في صياغة السياسة الخارجية بالرغم من أن ديمتري ميدفيديف أصبح رئيساً لروسيا الاتحادية, مع الأخذ بعين الاعتبار أن أحد أهم الاتجاهات الرئيسية للسياسة الخارجية في عهديهما هو وضع نهاية لخذلان سنوات التسعينيات و أن تصبح روسيا فاعلاً حقيقياً في إدارة القضايا الدولية. في الحقيقة, تعكس هذه السياسة بعداً إضافياً لارتباط روسيا بالشرق الأوسط , تلك المنطقة التي تعتبر من أهم الملفات الدولية و أكثرها حساسية, و هذا يفرض عليها أن تسهم في حل مشاكلها لكي تعتبر لاعباً دولياً أساسياً.
ثقل العامل الاقتصادي في عمق التعاون الثنائي
تلعب المصالح الاقتصادية المتبادلة دوراً أساسياً في تمتين العلاقات الثنائية بين الجانبين, لقد بدأ التعاون النشيط بين روسيا وسوريا في عام 1957. و قام الاتحاد السوفيتي بتشييد 63 مشروعاً، من أهمها: سلسلة المحطات الكهرومائية على نهر الفرات والعقدة المائية مع المحطة الكهرومائية " البعث" والمنشأة المائية مع المحطة الكهرومائية " تشرين " والمرحلة الأولى للمحطة الكهروحرارية " تشرين" ومد 1.5 ألف كيلومتر من السكك الحديدية و3.7 ألف كيلومتر من خطوط الكهرباء وبناء عدد من منشآت الري. واكتشف الاتحاد السوفيتي حقول النفط في شمال شرقي سورية وقام بإنشاء خط أنابيب لنقل المشتقات النفطية بين حمص وحلب بطول 180 كم، ومعمل الأسمدة الكيميائية مما سمح بتوفير نسبة 22 % من الطاقة الكهربائية ونسبة 27 % من النفط ومساحة 70 ألف هكتار من الأراضي المروية .
غير أن حجم التجارة المتبادلة انخفض إلى حد كبير في مطلع التسعينات, و تجاوزت الاتفاقيات التجارية بين روسيا و عدد من دول الشرق الأوسط (خاصةً تركيا ) تلك الاتفاقيات الموقعة مع سورية بشكل كبير. فحتى عام 2004 , كانت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين متواضعة جداً: لم تتجاوز حوالي 218 مليون دولار,و بلغت الصادرات الروسية حوالي 206 مليون دولار . بينما شهد التبادل التجاري بين البلدين بعداً جديداً بين عامي 2004 و 2008 (في قمة الضغط الغربي على سورية): في تشرين الثاني عام 2009, أعلنت الشركة الروسية ستروي ترانس غاز" Stroytransga" أكبر مشروع في سورية منذ عهد الاتحاد السوفيتي , هو معمل لمعالجة الغاز قرب حمص, و يلبي 50% من حاجة سورية للغاز المخصص لتوليد الطاقة الكهربائية .
بين عامي 2005 و 2008 , تطورت العلاقات التجارية بين روسيا و سورية بشكل ملحوظ , و عرفت أرقام الأعمال التجارية الثنائية في عام 2008 حداً مرتفعاً حوالي 2 مليار دولار, ثم عاد هذا الرقم إلى الانخفاض إلى حوالي 1,36 مليار دولار في عام 2009 بسبب تأثير الأزمة المالية في الاقتصاد العالمي . فقد دعمت زيارة الرئيس الروسي ميدفيديف إلى دمشق في أيار 2010 إعادة تنشيط التعاون الثنائي بين الجانبين, و انعكس ذلك فعلياً على مستوى التبادل التجاري: ارتفع حجم التجارة بين البلدين من 1,15 مليار $ عام 2010 إلى 1,97 مليار $ عام 2011 محققاً زيادة بنسبة 58% لنفس الفترة. حيث بلغت قيمة الصادرات الروسية 1,92 مليار $ شملت وقود التدفئة و غيرها من المنتجات النفطية و الأخشاب و الحبوب (بما في ذلك القمح), و المعادن الحديدية و المعدات الكهربائية و مركبات النقل أيضاً .
أضف إلى أن سورية هي من كبار المستوردين للأسلحة الروسية , و تتجلى مصلحة الجهات الفاعلة في اللوبي العسكري – الصناعي في الحفاظ على مثل هذا الزبون, خاصةً بالنظر إلى أن هؤلاء غير راضين عن السياسة الخارجية الروسية بالنسبة لتنفيذ روسيا العقوبات الاقتصادية على إيران تماشياً مع المجتمع الدولي مما أفقدهم الكثير من المال. و الشيء نفسه بالنسبة لليبيا فتغيير النظام الذي أعقب العمليات العسكرية أفقد هؤلاء عقود التسلح و خطوط السكك الحديدية و النفط.
المحدد الإسرائيلي للدعم الروسي
إن العلاقات الروسية-السورية (بشكل خاص التعاون العسكري بينهما) كانت دائماً محط انتقاد وضغط من قبل الولايات المتحدة الأمريكية و إسرائيل حيث تثمن الأخيرة علاقاتها مع موسكو و تسعى أيضاً إلى التأثير (سلباً) على علاقات روسيا مع الدول العربية و إيران.
تعتمد العلاقات الروسية-الإسرائيلية على تبادل تجاري متين و على التفكير بأكثر من مليون مهاجر روسي في إسرائيل حيث تعتبر موسكو أن إسرائيل متينة و ذات نفوذ: لذلك يجب الحفاظ على علاقات سياسية جيدة معها, بالإضافة إلى أن القيادة الروسية تقيم اعتباراً لوزن اللوبي المؤيد لإسرائيل في روسيا و تأثيره على المجتمع اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية .
من جهةٍ أخرى, يشكل التعاون التقني – العسكري بين روسيا و سورية القائم على النفعية المتبادلة عنصر جوهري في متانة العلاقات الثنائية بين الجانبين, لكنه محدود بالمعطيات التالية: تمثل الاعتبارات الإستراتيجية و السياسية في المنطقة محدد هام لذلك التعاون لأن روسيا لا ترغب أن تأزم علاقتها مع كل من إسرائيل و الولايات المتحدة الأمريكية , فقد أكد بوتين للإسرائيليين أن موسكو لن تضع أمن إسرائيل في خطر و أن روسيا لا تمتلك لا الوسائل و لا الأدوات اللازمة لقلب التوازن بين القوى في الشرق الأوسط, إلا أنه ليس من مصلحة روسيا ترك سورية - حليفها التقليدي - من دون وسائل للدفاع عن نفسها .
في الواقع, تبنت القيادة الروسية (في عهد كلٍ من فلاديمير بوتين و ديمتري ميدفيديف) سياسة بناء العلاقات الجيدة مع جميع دول منطقة الشرق الأوسط التي كللت بالنجاح نسبياً, و دعمت جهود السلام في الشرق الأوسط لكن يبدو جلياً أنها لا تمتلك وسائل تسمح لها بالتوصل لحل الصراع, لذلك التزمت الحفاظ على علاقات متوازنة مع إسرائيل من جهة و مع الدول العربية بما فيها حركة حماس في فلسطين من جهةٍ أخرى. أخيراً, تدرك روسيا جيداً أنها لا تستطيع تغيير توازن القوى الموجود في الشرق الأوسط لكنها تتمنى خلق حالة أكثر ارتياحاً لحليفها دمشق.
التقارب المحكوم بالمصالح الإستراتيجية
في بداية عقد التسعينيات, لم يرغب المجتمع الدولي (بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية) اعتبار روسيا دولة طبيعية و ذلك لعدة عوامل: تاريخها السوفيتي, بعض الاضطرابات الداخلية, ضخامة ترسانتها النووية و اتساع أراضيها, ما جعل اندماجها مع باق الدول الغربية أمر صعب جداً إذ لم يكن مستحيل. بالمقابل, أقلق توسع حلف الناتو في عام 1999 روسيا جداً لاسيما بعد وصوله إلى جيرانها في عام 2004, لذلك أخذت السلطات الروسية على عاتقها إدراك التهديدات الجيوبولتيكية الناجمة من انهيار سلفها الاتحاد السوفيتي تدريجياً, غير أن الشعور بنقاط الضعف تزايد بسبب التوترات التاريخية في منطقة القوقاز الشمالي الذي أثر سلباً على المسلمين في روسيا.
بناءً على هذه المعطيات, تلتقي المصالح الإستراتيجية لكل من روسيا و سورية على العديد من الملفات الهامة: تحتاج روسيا الاتحادية لحليف في المشرق العربي, المركز التاريخي و الديني للعالم الإسلامي, و هو خاضع بشكل شبه كامل للهيمنة الأمريكية, إلا أن سورية هي واحدة من بين الدول القلائل جداً المستقلين نسبياً عن الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة, و هذا ما يفسر أنها أكثر استعداداً للتعاون مع روسيا من الآخرين. فسورية تمنح موسكو عدداً من المزايا الإستراتيجية الثمينة مثل:الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط, حضور أكيد نسبياً في المشرق العربي, إمكانية ممارسة تأثير فعال في العلاقات العربية-الإسرائيلية, و هذا ما تتمناه موسكو منذ زمن.
أضف إلى أن سورية (الدولة الأكثر علمانية و مدنية من باقي الدول العربية في الشرق الأوسط) دعمت سياسية موسكو في القوقاز الشمالي, و أدانت بحزم المتمردين الشيشان و وصفتهم بالإرهابيين, وكانت البلد الثاني بعد بيلاروسيا التي دعمت روسيا علانية خلال حربها القصيرة مع جورجيا عام 2008 .
أما فيما يتعلق بالجانب السوري:تعتمد دمشق على الحماية الدبلوماسية الروسية في مواجهة التهديدات الأمريكية و الإسرائيلية, و تأمل بالحصول على السلاح و تكنولوجيات أخرى متطورة لا يمكنها الحصول عليها من الآخرين.
لقد شعرت دمشق بالتهديد بعد الغزو الأمريكي للعراق و بدرجة أقل خلال الأزمة اللبنانية في عام 2006. إن اغتيال الحريري هدم –على الأقل- معنوياً العلاقات الفرنسية-السورية و قطع علاقات سورية مع شركائها العرب الأساسيين: السعودية, الأردن و مصر. بالنتيجة, لم يكن أمام دمشق من خيار إلا الاعتماد الكامل على المساعدة الروسية. في كانون الأول 2005, زار الرئيس السوري بشار الأسد موسكو لأول مرة, و حينها ألغت السلطات الروسية ما يقارب 73% من الديون المترتبة على سورية منذ أيام الاتحاد السوفيتي و التي بلغت قيمتها 13,4 مليار دولار . على المستوى السياسي, كشفت تصريحات كلا الرئيسين عن اتفاق أرائهما اتجاه الملفات الأهم في الشرق الأوسط و العالم.
بعد لقاءاته مع الأسد, انتقد بوتين بلهجة عالية الحدة الولايات المتحدة الأمريكية, و أكد أن موسكو و دمشق تفضلان "عالم متوازن و ديمقراطي يقوم على معايير القانون الدولي, وبعيداً عن الضغوط و تدخل القوى العظمى في شؤون الدول ذات السيادة" .
كما زار الرئيس ميدفيدف دمشق في أيار 2010, في اللحظة التي كانت سورية فيها هدف لضغوطات جديدة و مكان تهديد, و أظهرت زيارته الدور الحامي لموسكو و أهمية العلاقات الروسية-السورية من جهة و البحث الروسي عن دور فاعل في تسوية الوضع المتأزم في الشرق الأوسط من جهةٍ أخرى .
في الواقع, أدركت القيادة السياسة في سورية التقارب مع موسكو انطلاقاٌ من اعتباره ضرورة و ضمان للمصالح القومية العليا. من جانبها, قلقت موسكو كثيراًجراء ازدياد التأثير الأمريكي في مربعها التقليدي, و كانت الفرصة ثمينة جداً لإعادة هيكلة حضورها في الشرق الأوسط , و تأكيد سياستها الخارجية التي أتت رداً على التدخل الأمريكي في العراق و توسيع حلف الناتو في العام الذي يليه. لكن لابد من الأخذ بعين الاعتبار, أن الدعم الروسي لسورية كان محدودا بضرورة تجنب ردود الأفعال السلبية لواشنطن و تل أبيب دائماً, فعلاقة روسيا مع الأخيرتين كانت عبارة عن محدد غير مباشر لمدى علاقتها مع دمشق.
بلوغ المحور الروسي - السوري عتبة الدعم الغير مشروط
بعد حقبة الاتحاد السوفيتي و العلاقات ذات الطبيعة الخاصة التي جمعته مع سورية لم يكن الدعم الروسي حتى النهاية, كما لم يكن أيضا بلا شروط, فالضغوط من قبل بقية الشركاء الدوليين كان له تأثيراً أكثر أهمية و وزناً من التأثير السوري في تعريف السياسة الخارجية الروسية. فنحن نذكر جيداً ما حدث في اجتماع مجلس الأمن تاريخ 2/9/2004 حيث تجنبت روسيا استخدام حق النقض (الفيتو) لتمنع الدول الأعضاء الأخرى من تبني القرار/1559/, الذي يفرض على جميع الجيوش الأجنبية الانسحاب من الأراضي اللبنانية. كما نذكر أيضاً كيف أنها لم تدعم سورية خلال مناقشة القرار رقم /1636/ تاريخ 31 / 10/2005 الذي طالب الحكومة السورية بالتعاون مع لجنة التحقيق الدولية باغتيال رفيق الحريري .
في الواقع, يمثل استخدام روسيا حق النقض (الفيتو) ثلاث مرات متتالية في مواجهة 13 دولة عضواً في مجلس الأمن لمنع تبني قراراً أميماً بشأن الوضع في سورية تحولاً عميقاً في مدى القدرة على الدعم الروسي و يعكس أيضاً قرار القيادة الروسية حول إعادة بناء هيكلة سياستها الأمنية على النحو الذي يتناسب مع توجهاتها الإستراتيجية الجديدة و تحقيق طموحها بإعادة إنتاج ذاتها كقوة عظمى على المستوى الدولي, فقد اعتمدت سياستها الأمنية الهادفة لضمان المصالح العليا و حفظ الأمن القومي على قراءة عقلانية لأهمية سورية كحليف قديم للاتحاد السوفيتي بأنها دولة تتمتع بإمكانات جيوبوليتكية تستطيع معها أن تقدم لروسيا الصاعدة عمقاً جيواستراتيجياً فريداُ على النحو التالي:
• يدعم وجود نظام سياسي ذو صبغة علمانية في سورية الجهود الروسية الرامية لوقف المد الإسلامي السلفي إلى الجمهوريات الروسية المسلمة (بلغ تعداد مسلمي روسيا مع بداية عام 2005 أكثر من 20 مليون نسمة، ليشكلوا بذلك 14% من سكان روسيا, مع الأخذ بعين الاعتبار أن تعداد سكانها يبلغ نحو 140 مليوناً) , حيث يشكل هذا المد تهديداً غير مباشر للأمن الروسي في محيط إقليمي يعج بالحركات الإسلامية الأصولية, خاصةً و أن القوة الروسية واجهت دائماً المشكلة الدينية سواءً على أراضيها أو في مناطق أخرى قريبة, و على وجه الخصوص تلك المناطق الناطقة بالتركية. فقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية احتواء هذا البعد الجيو ـ إسلامي من خلال محور واشنطن ـ الرياض ـ أنقرة. كما تسعى تركيا إلى استمالتهم من خلال بث عدداً من القنوات البث التلفزيوني إلى الدول التي يوجد فيا الأتراك بنسب غالبة. و في محاولة لمواجهة تلك المشكلة فقد اختارت روسيا منذ أيام الاتحاد السوفيتي الإسلام العروبي في مواجهة الإسلام التركي .
• تمثل سورية (الحليف التقليدي) العتبة الأخيرة لروسيا من أجل لعب دور أمني و عسكري ينافس الوجود الأمني الأمريكي المكثف في الشرق الأوسط, و خاصةً الخليج العربي متطلعةً إلى عودة النظام الدولي المتعدد الأقطاب.
• إن عقود توريد الأسلحة لسورية جعلها مستهلكا جيدا ونشطا للأسلحة الروسية عبر عدة سنوات, ففي عام 2010 وحده, اشترت سورية اسلحة روسية بما يعادل 700 مليون دولار, كما وافقت موسكو في الآونة الأخيرة على بيع 36 طائرة مقاتلة من نوع ياك 130 مقابل 550 مليون دولار , و هذا يعني أن الأسلحة الروسية تمثل عامل مهم في بناء القدرات العسكرية و الدفاعية السورية أي قوة تأثير روسية غير مباشرة.
• تمتلك سورية مواصفات جيواسترايجية نوعية لتأسيس نسق عسكري جديد بهدف خلق توازن عسكري رادع في مواجهة نشر حلف شمال الأطلسي (الناتو) درعه الصاروخي في تركيا الذي يشكل بدوره تهديداً لروسيا و إيران, و تجديداً للحرب الباردة من الجناح الجنوبي للأطلسي, و ذلك انطلاقاً من القاعدة العسكرية الهامة في طرطوس التي تعد قاعدة التموين الوحيد للأسطول الروسي في منطقة البحر المتوسط, و تخلص روسيا من تلك القيود التي تفرضها تركيا (العضو في حلف الناتو) على السفن الروسية العابرة للمضائق الخاضعة لرقابتها, بالإضافة إلى قربها من قناة السويس, كما تتيح أيضاً إمكانية الوصول إلى القرن الإفريقي و المحيط الهندي حيث تشارك البحرية الروسية في مكافحة القرصنة المتفشية في خليج عدن. لقد شكل إعادة تأهيل قاعدة طرطوس مصدرا للتوتر في العلاقات بين روسيا و تل أبيب فالإسرائيليون كانوا قلقين من مشاهدة روسيا تنشر صواريخ مضادة للسفن من نوع ياخونت أو أي أسلحة متطورة أخرى في سورية . و هذا له ما يبرره من وجهة النظر الروسية بأنه ينطلق من ضرورة حماية أمنها الإقليمي بمستوياته كافة السياسية و العسكرية و الاقتصادية غير أنه يوفر لسورية من جهةٍ أخرى دفاعات إضافية ضد أي اعتداء محتمل من قبل أحد جيرانها. هذا يعني أن الوصول إلى مياه المتوسط يمثل غاية إستراتيجية كبرى لروسيا بعد أن خاضت قبل مئات الأعوام حروباً إستراتيجية سميت "بحروب الوصول إلى المياه الدافئة" و هي لن تتخلى عنها تحت أي ظرف و بغض النظر عن نوعية الصفقات السياسية و المالية.
في الحقيقة, إن سورية الواقعة بين الخليج العربي و البحر الأبيض المتوسط تمثل حجر زاوية في السياسة الأمنية الروسية المهيكلة على أساسين: الأول, خلق توازن عسكري رادع مع منظومة حلف الناتو تقدم سورية فيه ميزة استراتيجية نوعية هو توسيع الدائرة الأمنية بحيث يكون معه محور هذا التوازن منطلق من القاعدة العسكرية الروسية في طرطوس في مواجهة قاعدة صواريخ حلف الناتو في تركيا. أما الثاني فهو صيانة المصالح الروسية العليا الاقتصادية و العسكرية و حتى الثقافية بما فيها فتح أسواق جديدة للأسلحة الروسية في الخليج العربي و الأردن التي هي سوق تقليدية للأسلحة الأمريكية الصنع, بالإضافة إلى تحقيق مشاريعها في مجال الطاقة و الغاز في المنطقة عموماً و الخليج خصوصاً. هنا يبدو جلياً أن الخط الواصل بين الأمنين الروسي و السوري متين جداً و يفسر بالتالي ذلك الدعم الغير مشروط من قبل روسيا لضمان استقرار الدولة السورية و ضرورة الحفاظ على طبيعة النظام السياسي في مواجهة أي تغيرات محتملة ذات تداعيات سلبية على الأمن الروسي. لابد من الإشارة إلى أن هذا التمسك الروسي بموقفها اتجاه سورية يضع مصداقيتها كفاعل دولي في اختبار حقيقي, أي في حال تخلي روسيا عن دمشق في اللحظة الحاسمة كما فعلت سابقاً مع طرابلس, سينتج هذا الفعل بالضرورة إشارة واضحة جداً لجميع شركائها في العالم أجمع من رئيس فنزويلا هوغو تشافيز إلى رئيس كوريا الشمالية جونج اون , أنه من الأفضل عدم الاعتماد على روسيا.
أخيراً , إن العلاقات التاريخية بين كلا البلدين تتيح لروسيا فرصة ثمينة من أجل استعادة صورتها الدولية الأكثر صلابة و فاعلية في الشرق الأوسط و هذا ما لا تريده الولايات المتحدة الأمريكية. أما بالنسبة لسورية, فإنها تملك بفضل هذه العلاقات شريكا مستعدا دائماّ لدعمها دبلوماسياً خاصةً عندما تكون في حالة مواجهة مع المجتمع الدولي. بكلمة واحدة, تمنح العلاقات الروسية-السورية كلا البلدين وسائل الحفاظ على الحضور الدولي منذ زمن بعيد.
المراجع
[1] Andrei Minatchev et Jacques Lévesque ,« L’identité et la sécurité de la Russie : Les crises internationales comme miroir de la guerre de Tchétchénie » ,Études internationales, vol. 35, n° 1, 2004, p. 49-72.
[2] w. Laqueur, The Struggle for the Middle East : The Soviet Union in the Mediterranean 1958- 1986, Londres, Macmillan, 1969, P. 94
[3] A. kreutz, Russia in the Middle East: Friend or Foe?, Westport, Praeger Security International, 2007,P. 18- 25
[4] Andrej Kreutz ,« Syrie: le meilleur atout de la Roussie au Moyen Orient » ,Russie. Nei.Visions, n° 55, Novembre 2010, p. 8-9.
[5] " نبذة عن العلاقات الروسية – السورية" , روسيا اليوم, 7/ 8/2009
[6] « Russia: Putin Praises Level of Relations with Syria during Meeting in Kremlin », Interfax, 25 janvier 2005
[7] « Gas Processing Plant - Russia’s Biggest Project in Syria », ITRA-TASS, 18 novembre 2009
[8] Andrej Kreutz ,« Syrie: le meilleur atout de la Roussie au Moyen Orient » ,Art. cit.
[9]« Hausse de 58% du volume des échanges commerciaux entre la Syrie et la Russie », LIBERTE, 21 Février 2012, http://www.liberte-algerie.com/international/hausse-de-58-du-volume-des-echanges-commerciaux-entre-la-syrie-et-la-russie-172560
[10] P. Razoux, « The Keys to Understanding the Israel-Russia Relationship », NATO Defense College, Rome, Research Paper , n° 42, novembre 2008, P. 2-8
[11] Andrej Kreutz ,« Syrie: le meilleur atout de la Roussie au Moyen Orient » ,Art.Cit., P. 10- 11
[12] « US to Syria: Do not Meddle in Russia-Georgia Conflict », Haaretz , 25 aout 2008.
[13] « Moscow Writes off 73% of Syria’s Debt », Interfax, 25 janvier 2005.
[14] V. Romankova, « Russia’s President Putin Says Road Map Real Way to Resume Mideast Peace », ITRA-TASS, 25 janvier 2005.
[15] «Medvedev’s Visit to Syria Focuses on Mideast peaceful Settlement», ITRA-TASS, 12 mai 2010.
[16] « La Russie et la Syrie: un soutien inconditionnel?», 12 juillet 2011, http://syrie.blog.lemonde.fr/
[17] «The Coming Islamic Republic of Russia», 22 may 2006, http://www.strategypage.com/qnd/russia/articles/20060522.aspx
[18] Roger Tebib, « Les politiques islamiques de l’URSS et de la Russie», Geostrategiques, , n° 24, juillet 2009 , P. 145-150.
[19] «Syrie: les raisons du veto russe», Le Courrier de Russie, 14 février 2012.
[20] « La Russie et la Syrie: un soutien inconditionnel?», Art.Cit.