في سورية، صار للكلمة فعل الرصاصة، إن لم تقتل جسدياً فحتماً ستقتل معنوياً، كم صعب على المرء إثبات جريمة بارتكاب جريمة أخرى.
سورية بعد مارس 2011، ليست سورية قبل هذا التاريخ، لماذا لا يدرك موجهو الرأي العام وصنّاعه داخلياً هذه الحقيقة؟ لماذا لم يستطع الإعلام السوري لليوم تطبيق ما اعتبره قفزة نوعية على وسائل الإعلام المسعورة عدوة سورية الدولة والشعب؟ لماذا اعتبر حجب قنواته عن البث –المدانة قطعاً- قفزة نوعية؟ لماذا اعتبر تفجير مبنى الإخبارية وخطف الصحفيين واغتيال بعضهم الآخر- المدانة أيضاً- قفزة نوعية؟ لماذا اعتبر إنهاء عصر الصوت الواحد- أبجديات العمل الإعلامي- قفزة نوعية؟ جاهدت نفسي صابراً في هذا المستنقع حتى الاختناق ولم أجد جواباً يحترم عقلي، ما عاد يعنيني الجواب، بقدر ما يعنيني اليوم مصير وطن على حافة الهاوية.
غياب الإعلام العسكري
محال أن تجد توصيفاً لهذه الكارثة يقل خطورة عن كارثة الإرهاب المنظم الذي يضرب عميقاً في قلب سورية الدولة وعمقها الاجتماعي، متربعاً على ظهر انتفاضة بريئة ذبحها الإعلام السوري، وشيّعها تجار الحروب العالمية والإقليمية، ودفنها ثوار السلاح والدم وأنصارهم، ماذا ستقول لهؤلاء وأؤلئك، وماذا ستقول للإعلام السوري؟ وحده الجيش الوطني حصن البلاد الأخير، يواجه كل هذا، أعداؤه وأدواتهم السوريين يسعون لإبادته لأنه جيش النظام، والإعلام الرسمي والخاص يستغل دماء الجنود بأغنية من هنا، وإشادة من هناك، أو عبر تقرير مصور يشعرك أنك أمام عرض مسرحي، كم هو خطير هذا التناقض، وكم يحار المرء في العقل العبقري الذي اقترح تسويق انتصارات وهمية للجيش بحجة المعنويات، والجيش يعرف كما أركانه، وكما الشعب أن نصفها غير صحيح، ولو كان لهذا التسويق مسوغات -غير مقنعة- بعد الصدمة الأولى لانحراف الحراك الشعبي عن مساره وتحوله إلى نزاع مسلح بإدارات محلية ودولية، فلا مسوغ مقنعاً يعفي ذاك العقل الإعلامي من تغييب حقيقة الصراع الدائر، وتغليب الخطاب العاطفي على حساب آلام الشعب، اللذين ما كان لهما هذا التأثير لولا "غياب أو إقصاء" صوت الإعلام العسكري صاحب الكلمة الفصل في حديث المعركة وإدارة مراحلها، والتي تحتاج وفقاً لمعطياتها إلى فضائية خاصة يتولى إدارتها إعلام حربي مدرب ومتخصص، ولو تم الاكتفاء ببث أرضي داخلي لها ما دامت المعركة، وللجيش بعد ذلك حق تقرير مصيرها، لماذا لا يدرك القائمون على إعلام البلاد هذه الفرضية، لماذا لا يدركون أن القفزة النوعية تكون بالتفرغ لقضايا الشعب، وعدم التدخل في ميدان الجيش إلا بما يقترحه إعلامه العسكري، الذي أوكلوا بفضل عبقريتهم لمحلل لبناني التحدث عن معركته وظروفها، تماماً مثلما فعلت إحدى فضائيات الدجل واستضافت محللاً مصرياً ليتحدث عن الجغرافية السورية وظروف معركتها موجهاً نصائحه للميليشيات المسلحة، لا أريد التصديق أن الإعلام السوري عدو جديد للجيش.
الخيّر ومناع ونيوف
جرائم الإعلام السوري بحق معارضين أثبتوا بعد أزمتنا الوطنية أنهم أبناء شرعيون للوطن، تصلح دروساً مجانية في احتراف الإساءة والتجريح، وزادها حرفية القفزة النوعية، أستحضر على سبيل المثال لا الحصر ثلاثة أسماء: د.عبد العزيز الخيّر، د.هيثم مناع، الصحفي والكاتب نزار نيوف، نبدأ من الخيّر: لماذا لليوم لا تقدرون تاريخ هذا الرجل ونضاله؟ هل لنا بحديث عنه عبر أحد برامجكم، وعما استجد من نضاله بعد الأزمة، قبل أن تختطفه "عناصر إرهابية" جراء تقصيركم في سلامته إن لم يكن معتقلاً لديكم، كونوا شجعاناً واعتذروا منه كمواطن سوري قبل أن يكون معارضاً على ما لحقه من أذى، أما هيثم مناع الذي أخذتم عليه في بداية الاحتجاجات أنه قال على الملأ برفض إدخال السلاح إلى سورية فدمرتم الرجل سياسياً على حساب إثباتكم لوجهة نظركم، وبقيتم تلتقطون من كلامه ما ينفعكم وتهملون ما ينفع الوطن، هل تتحقق معجزة ونرى مناع على إحدى الفضائيات السورية كما نراه على حديثة الولادة "الميادين" التي يبدو أنها دخلت من أيامها الأولى وسيطاً لحل الأزمة السورية إعلامياً، وبدأت تقفز نوعياً "في فترة استراحتكم من القفز" لدرجة تنفرد أحياناً بأحداث عسكرية لا مسوغ لوصولها لها قبلكم، ونختم قائمتنا مع الصحفي والكاتب نزار نيوف الذي جلدتموه بتهمة العمالة جراء ما كشفه من حقائق تدين رؤوس الفساد ومافيا التجارة بحياة السوريين وثروتهم بعد خروجه من سجن دام عشر سنوات، فضلا عن أنه لم يسلم من التعرض لحياته العائلية وادعاء زواجه من إسرائيلية حتى بعد الانتفاضة لأن عقله الإعلامي لا يقبل الترويض إلا من قبل "الحقيقة"، ولا يمكن تدجين فكره ومنطلقاته الإنسانية على حساب الحق والعدالة، لماذا لم تنتقدوا حقائق الرجل ومواقفه بذات الطريقة التي اعتمدها ولجأتم إلى أسلوب رخيص ليس من أخلاقيات المهنة، هل صحيح أنكم فعلتم كما فعلت فضائيات الضلالة عندما تعرضت لخصوصيات قادة ودبلوماسيين في النظام؟ سأترك لكم الجواب على هذا السؤال.
أسئلة لن تستطيعوا الإجابة عليها
هل أنتم بالفعل تريدون الدفاع عن سورية الدولة، الشعب، الكرامة، التاريخ، الموقف، أم تريدون الدفاع عن سورية تفصّلون حدودها وشعبها وكرامتها وتاريخها ومواقفها على طريقتكم؟ أين المسؤولون عن الفساد ونهب الشعب وثروته من شاشاتكم؟ أين المتورطون بدماء المدنيين والعسكريين من أؤلئك المسؤولين؟ ما السر في تمسككم لليوم بمحللين سياسيين عرب أكثرهم لبنانيون للحديث في شؤون السوريين، وطبعاً لن نقول لكم أنكم اعتمدتم هؤلاء للتخدير الموضعي والمؤقت للشعب في بداية الاحتجاجات، مع عدم تقديرنا لأسلوب بعضهم الفظ وألفاظه غير اللائقة برأي عام.
لن أخوض بكوارثكم المهنية، فهذا يحتاج مقاماً آخر، لكن حبذا لو تحترموا عقول البشر قليلاً عند إعدادكم تقريراً مصوراً، وحبذا أيضاً لو ترحموا الناس من ظهور "أشباه الإعلاميين" -وما أكثرهم- على الشاشات، وحبذا أيضاً لو ترحمونا من صداع بعض الشخصيات التي استضفتموها سابقاً، وليس لديها حجة أو برهاناً خلال دفاعها عن البلد وتاريخه، ولو كان هذا الدفاع حقاً مشروعاً لهم، لكن ليس مكانه شاشة رأي عام تلوث ذاكرة الأجيال، وتربيها على خطاب ديماغوجي لا مرجعية توثيقية له.
أخيراً: إن كانت "اتفاقية أضنة وملاحقها السرية" كذبة سياسية وعسكرية، وأتمنى من قلبي أن تكون كذلك، فأثبتوا لنا ذلك بالدليل الإعلامي وعبر تقرير مفصل عن لواء إسكندرون.
-----
المقال يعبّر عن رأي الكاتب