عرضت قناة الجزيرة أمس (12-7-2012) تعليق عميد في "الجيش الحر" على مواجهات "التريمسة" (11-7-2012)، قال فيه إن "العلويين" قاموا بـ "المجزرة"، وعرض خريطة إثنية ومذهبية للمنطقة كما لو أن طوائفها ومذاهبها وأقوامها (الخ) هي جيوش متحاربة وليس تكوينات فرعية لشعب واحد في بلد هو سوريا؛ وقال آخر - زعمت القناة المذكورة أنه من أهل البلدة (تريمسة) - ان "النظام" يريد إقامة "دولة للعلويين" تمتد من الغاب إلى الساحل (!).
هذا خطاب يُفصح عن أشياء أكثر مما يُخفي. وأنا أُذكِّر بمخاوف كنتُ كتبتُ عنها في دراسة صدرت مؤخراً بعنوان: الحدث السوري: مقاربة "تفكيكية"، وهي دراسة لم ترضي أطراف الصراع لأنها لا تخدم "أجندة" أحد منهم، فـ "تجاهلوها"، وخاصةً أنها أظهرتهم مثل "الملك لير" في القصة المعروفة.
ما قاله هؤلاء ليس فيه غموض أو التباس، هو يفصح عن قناعاتهم، بالأحرى سياساتهم، وما قالوه عن "استهداف" و"تهجير" بزعم السعي لإقامة دولة طائفية، هو اتهام ينطبق عليهم، على قولة "يكاد المريب يقول خذوني".
أقول ان هذا الخطاب يُفصح عن أشياء كثيرة، بل انه لا يكاد يخفي شيئاً، فيما يخص القائلين به والمروجين له والمؤمنين سراً أو علانية، فهو:
1- يُفصح عن "إفلاس" سياسي وأخلاقي، بالنسبة لقطاعات واسعة من المعارضة، الخارجية منها على وجه الخصوص، وهي ليست سواء.
2- خطاب يحاول "التعمية" على ما جرى في "تريمسة" من "مواجهات" بين طرفين. و"يُجيِّش" طائفياً بكيفية تنسجم مع متطلبات "الاستقطاب" و"العَرَّة" الإقليمية (والدولية) الراهنة.
3- ان عدداً (؟) من القتلى في "تريمسة" هم من المسلحين، الذين يعرفهم أهالي منطقة الغاب بالاسم، بناء على دور هؤلاء (المسلحين) في حوادث الخطف مقابل الفدية والخطف بقصد الاغتصاب والقتل، باسم "الثورة".
4- خطاب يريد "اختلاق" مدارك و"تحريك" نوازع غزوية وجاهلية معروفة، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير، وهذا مما يؤسف له.
5- كان "الخطاب" الطائفي على هامش الحراك المعارض، و"السلوك" الطائفي في القلب منه. وقد صدر ذلك الخطاب في البداية عن صغار المعارضة (وقطاع واسع من جمهورها!)؛ وهو يصدر اليوم عن مسؤولين كبار فيها.
6- بدأ الحراك المُعارض "مدنياً" فيه شيء من طائفية، ثم تحول سريعاً إلى "طائفي" فيه شيء من "مدنية"، وأنا هنا لا أقلل من شأن قوى المعارضة الوطنية والديمقراطية، التي أقدر خطابها واحترم العديد من أفرداها.
7- قد يكون الخطاب الطائفي "مفيداً" في لعبة السياسة الراهنة، فيحقق مكاسب لـ "مُستخدمه" و"المُروج" له، إلا أن ذلك يكون على حساب "الوطن"، إن كان ما يزال لهذه الكلمة (وطن) معناً توحيدياً جامعاً.
8- ان النظام مسؤول سياسياً وأخلاقياً عما يجري، وحتى لو لم يكن اللاعب الوحيد فيه، وهو بالقطع لا يلعب بمفرده، إلا أن الكثير مما يجري هو "من صنع يديه" على قولة المثل "يداك أوكتا وفوك نفخ".
9- يجب أن تكون المعارضة وطنية، وطنية بالبداهة، "وطنية يعني وطنية" على قولة المرحوم أبو فادي! لا أن تكون "شكلاً بلا مضمون" أو مسألة "وظيفية" و"خطابية" وجزءا من "ديكورات" و"مستلزمات" العلاقات العامة والدعاية السياسية. وقد لوحظ أن الحديث في المسألة الوطنية والدولتية تراجع حتى بالمعنى "الوظيفي"، وأمسى التعاطي معه "نادراً" و"طفيفاً"!
10- ان إصدار وثائق ومسودات إطارية مكتوبة بعناية، هي أمر جيد، ولكنها لم تقنع أحداً، لأنها منبتة الصلة بما يقوم به "أصحابها" أنفسهم في الواقع. وهنا يطرح السؤال: من يشرح من، ومن يفسر من: الخطاب أم السلوك؟
وفي الختام، أحذر من أي تأويل قصدي مشوه لما أراد هذا النص قوله، فهو ينطلق من هواجس وطنية وسوريّة في المقام الأول، على الرغم من ان أطراف الصراع التي تختلف في أمور كثيرة، "يجمعها" موقف "موحد" تقريباً، وهو رفض الخطاب العقلاني، وتأثيم أصحابه، وقد يصل ذلك بها إلى حد الاستهداف!