في دمشق هذه الأيام لا أحد يستوقفك ليسألك كيف أنت؟ ما هي أخبارك؟ لا أحد يستعلم عن خطة إجازة الصيف.. ولا أين ستسهر هذا المساء.. فالموت يحلق فوق البيوت الدمشقية الصغيرة ويمدّ رأسه من النوافذ كحيوان شرس يخطف بمخالبه كل شيء: الأرملة والطفل والسجين والسجان، القاتل والمناضل، الغني والفقير، القامع والمقموع.. ومن لا تطاله مخالبه القاتلة يتابع دربه ضاحكاً أو باكياً.
في الشوارع القديمة غابت أصوات بائعي الحليب وجرار الغاز والكتب العتيقة.. وحضرت أصوات الاقتتال المحلي، وفي البيوت غابت ثرثرات النساء وأغنيات الغزل وروائح القهوة وامتلأت بصيحات الاستغاثات البشرية وروائح حرقة القلوب ملأت نوم الأطفال بالكوابيس.
في الشام رجال حائرون.. يجترّون مع الفجر كل البشاعات التي زرعت في صدورهم، يتنقلون بين التنظيمات المختلفة.. يتشاجرون ويضيعون الهدف ثم يسقطون في فخ التناقضات. يهربون من الخوف إلى السُلطة، ويخرجون صباحاً.. ثم يعودون مثقوبين بالرصاص، ونساؤهم محاصرات بأطفال جائعين وقد تجاوزن المرحلة المترفة للحزن واستهلكن حصصهن من البكاء على أنهار الموت المتدفقة من الشوارع.
أطفال دمشق ليسوا بحاجة لثياب العيد.. ولا للأرغفة الساخنة ولا لطعم الفول النابت على الشفاه، حتى الطبشور الذي رسمته أياديهم الصغيرة على أرصفة الطرقات لم يعد مهماً.. أطفال دمشق كبروا وانصرفوا عن ألعابهم والألوان.. يلاصقون شاشات التلفزيون ويتلقفون أخبار المدن المحترقة... وترتجف أجسادهم داخل الغرف الأسمنتية خوفاً من رصاصات قاتلة تدور بين البيوت بحثاً عن موت مجاني.
في مناخ كهذا ثمة من يتابع باسترخاءٍ ترِفْ لعبته السياسية، من دون أن يتوقف لحظة ليشاهد كيف يحارب السوريون الموت بالاستماع إلى أصواتهم. في هذا المناخ ثمة من يستمتعون بمباهج الكراهية والطائفية دونما خجل، يمارسون طقوسهم الاحتفالية وهم يشاهدون نشرات الأخبار تنقل موتاً وذعراً ونيراناً تلتهم الأبنية من دون أن تفصح ملامحهم عن ومضة قلق.
دمشق.. المدينة التي تفوح منها رائحة الحرائق اليوم تهوي إلى القاع.. تتطلى كل يوم بالدماء باسم الحرية ومحاربة الإرهاب، وتقمع باسم المستقبل الأجمل، وتعذب باسم العقيدة، ويدعي وصايتها رجال جاؤوا ليستغلوها. مدينة الثرثرات التاريخية الأدبية محاصرة اليوم بالصمت واللامبالاة وأنا لا أجرؤ على البوح.
يطمرني القصف يومياً ولا أجرؤ على التنفس.. تجهض كل يوم ذكرياتي ولا أجرؤ على البكاء.. مصابة بالعجز في وطني ولا أجرؤ على الصراخ .. وكمرادفة فصيحة للصمت.. ألملم مشهدي الدمشقي وأخرج إلى غارتي الليلية للتخدير.. منكسة الرأس أعبر فراغاً مطلقاً نحو المجهول.. وأغمض عيني مستسلمة لفكرة عبرت خاطري " ما يحدث يتجاوز فهمي المنطقي للأشياء".
نقلا عن سكاي نيوز عربية